إن السعادة الحقة تشمل كل المعانى والمشاعر والأحداث الإيجابية التى تجعل الإنسان مستريحا جسميا، نشطا عقليا، هادئا نفسيا، مرغوبا اجتماعيا، أما الشقاء فيشمل كل المعانى والمشاعر والأحداث السلبية التى تجعل الإنسان مكدودا جسميا، خاملا عقليا، مستثارا نفسيا، منبوذا اجتماعيا، فإذا كانت هذه المعانى الإيجابية وكذلك المشاعر والأحداث حقيقية، ومشبعة نفسيا لصاحبها، كان سعيدا؛ أما إذا كانت مزيفة، أو غير مشبعة نفسيا كان صاحبها تعيسا، وأهم عناصر السعادة هو دوامها، ولا مكان للدوام، ولا الحقيقة المطلقة، ولا الإشباع الكامل إلا فى الآخرة. حينما تناول القرآن الحديث عن السعادة والشقاء، قرر أن ذلك سيكون فى يوم مجموع له الناس، وسيكون يوما مشهودا، وسوف يساق فيه الناس سوقا إلى العرض، وحينها: "لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ" فالصمت يغشى، والرهبة تخيم، ولا يجرؤ أحد حتى على طلب الإذن بالكلام، إلا لِمَن يأذن له الله بأن يتكلم. ثم تبدأ عملية الفرز والتوزيع: "فَمِنْهُمْ شَقِى وَسَعِيدٌ" وكل يعرف مكانه: "فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ"، "وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِى الْجَنَّةِ"، فستكون هناك إذن السعادة الحقة.. الدائمة.. السرمدية، وسيكون كذلك الشقاء الأبدى، وكلا الفريقين سيحيا فى مآله أبدا، وسيظل السعيد فى الجنة سعيدا، وسيظل الشقى فى النار شقيا، وسيكونون جميعا: "خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ". أما فى الدنيا؛ فإن بعض السعادة تكون فى بعض المعانى الإيجابية، ومنها الراحة.. والسعة.. واليسر.. والأمن، وكلها مؤقتة، ومتغيرة، ومختلفة، وقد يكون بعضها مزيفا أو مزعوما، كما أن بعض الشقاء يكون فى بعض المعانى السلبية، ومنها الكد.. والضيق.. والضنك.. والخوف، وكلها مؤقتة، ومتغيرة، ومختلفة كذلك. وقد تدور بعض الأفكار سواء الإيجابية منها أو السلبية فى العقل فقط، وقد يشعر الفرد بمشاعر مزيفة وليست حقيقية، وقد تُحدِث أحداثا كثيرة فى ذهن الإنسان وليس فى الواقع، مما قد يجعل الإنسان يشعر أحيانا بالسعادة ويشعر أحيانا أخرى بالتعاسة. وقد تكون الدنيا سميت كذلك لدنوها ودنائتها معا.. وهى الفلك الذى تدور فيه السعادة والشقاء، والفخ الذى يقع فيه الأشقياء، ولك أن تتصور عجوزا متصابية متبرجة، وتظن أنها تتمتع بالجمال الأخّاذ والأنوثة الطاغية، فكم تكون هذه العجوز مقززة، والغريب أن يقع فى حبها بعض السذج، وينجذب إلى الارتباط بها بعض البلهاء؛ ظنا منهم أن حقيقتها كمظهرها، وأنها باقية على حالها، ودائمة على جمالها، وسرعان ما يعرفون حقيقتها، ويكتشفون زيفها، وهذا عينه هو ما يجعل السعادة فى الدنيا مؤقتة، أما السعداء فهم الذين يدركون أن هذه العجوز سرعان ما ينتهى تبرجها، وينهار زيفها، فيوطدون أنفسهم على التعامل معها على هذا الأساس. إن الدنيا دار اختبار؛ واختباراتها متعددة المستويات؛ فيكون أصعبها الاختبارات غير المباشرة، أو تلك التى لا تبدو أنها اختبارات بادى الرأى، فتلتبس على العقلاء، أو تلك التى تتضمن ابتلاءات متكررة بصورة مزعجة تجعل الإنسان يتساءل: إلى متى؟ أو تلك التى تتضمن فترة من الراحة التى لا تحدث فيها ابتلاءات لمدة طويلة، بصورة تجعل الإنسان يشعر بالأمان، ويظن أنه بمنأى عن العواصف، أو أنه بمأمن من تقلبات الأيام، أو تلك التى تتضمن ابتلاءات يضطرب فيها إدراك الإنسان، فيربط بينها وبين حب الله أو بغضه، أو رضا الله وسخطه، أو تلك التى تتضمن ابتلاءات تجعل الإنسان ينسى أنه موجود فى الدنيا فينسى أنه لا يزال فى قاعة الامتحان. إن عناصر السعادة والشقاء كالراحة والتعب.. والفرح والحزن.. والسعة والضيق.. واليسر والضنك.. والأمن والخوف.. كل منها فى الدنيا له نسبة محددة لدى كل إنسان، فلا توجد فى الدنيا راحة مطلقة، كما لا يوجد فى الدنيا تعب مطلق، إنما الدنيا بين هذا وذاك. والإنسان قد يسعد نفسه أو يشقيها، فكما أن الحب يجعل من المعاناة متعة؛ فإن العقل والطريقة التى يفكر بها الإنسان قد تجعل من التعب راحة. إن أداة إدراك السعادة أو الشقاء فى الدنيا هى العقل، فالنعيم الدنيوى يحتاج إلى عقلية تجعل صاحبها سعيدا، فيدرك السعادة حتى لو لم تتوفر له جميع أسبابها، وتكون مفردات تفكيره هى: العلم والتعلم.. والثقة واليقين.. والرضا والفرح.. والطاعة والذكر.. وتقدير نعم الله.. وتيسير الحياة على الناس، فيتسم بسمات نفسية رائعة على رأسها الحب والتقبل والتواضع.. وأما جحيم الدنيا فيحتاج إلى عقلية تجعل صاحبها تعيسا شقيا، فيدرك الشقاء مهما توفرت له أسباب السعادة، وتكون مفردات تفكيره هى: الجهل والتمسك به.. والشك، والسخط.. والمعصية.. والإعراض عن ذكر الله، فيتسم بسمات نفسية سيئة على رأسها الكبر.. والشعور بعدم التقبل، وسمات سلوكية على رأسها الوقاحة.. والجرأة فى الباطل، وكلها من أسباب الشقاء. إن القلب هو المكان الذى يسكن فيه النعيم أو يخيم فيه الشقاء، وقد سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أى الناس أفضل؟ فقال: "كلُّ مخمومِ القلب، صدوقِ اللسان" قالوا: صدوقُ اللسانِ نعرفه، فما مخمومُ القلب؟ قال: "هو التَّقى النَّقىّ، لا إثمَ فيه ولا بَغْى، ولا غِلّ ولا حَسَد".. فالواضح من الحديث أن القلب مكان، والمكان إما نقى من الإثم والبغى، وإما موجودة به الخبائث من الغل والحسد، فمن السهولة بمكان أن يشعر صاحب القلب النقى بالنعيم، ذلك أن قلبه مملوء به، ويشعر صاحب القلب غير النقى بالشقاء، ذلك أن قلبه مملوء غل وحسد. إن الواقع الذى يعيش فيه الإنسان هو الذى يدفعه أو يشجعه على تبنى آراء واتجاهات ومواقف تميل كلها ناحية الشعور بالسعادة ومحاولة الاغتراف منها، أو الشعور بالشقاء والاقتناع بالتمرغ فيه، فالعقل يدرك الأسباب، والقلب يشعر بها، والواقع يصدقها أو يكذبها، وهنا يطرأ سؤال مهم، من أين إذن نبدأ التغيير إذا أردناه؟ فهل نبدأ بالعقل وتغيير الأفكار والمفاهيم، أم نبدأ بالقلب والمشاعر وتغيير الميول والاتجاهات والعواطف، أم نبدأ بالواقع وتغيير مفرداته ليبدأ الإنسان فى إدراك ما لم يدركه من أسباب السعادة. أقول: المهم أن ندرك أننا فى احتياج لتغيير نظرتنا للحياة بكل ما فيها، فكل ما فيها جميل، ولا بد أن نبدأ بالتغيير الفعلى، وساعتها نبدأ من حيث نحن، ونبدأ بالأيسر، ونبدأ بالممكن، فالمهم أن نبدأ. إن الواقع تتوفر فيه بعض أسباب السعادة، وإدراك ما يتوفر فى الواقع بالعقل سهل ميسور، فما أيسر أن تجد ما تبحث عنه، فإذا أدركت شيئا من تلك الأسباب فى الواقع؛ فلا بد أن تشعر به وتعيش فيه وتستمتع بوجوده.