شاء الله عز وجل أن يُرَبِّينا ويُعلِّمنا من خلال النماذج الطيبة التى نراها أو نسمع عنها، أوجدها الحق تبارك وتعالى من أجلنا نقتبس منها ونتأسَّى بها، وعلى رأس هؤلاء جميعًا أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام جميعًا، فهم الصَّفْوة المختارة وهم الدُّرَر التى أضاءت الطريق للبشرية؛ كى تمضى فى خير طريق وأرشد سبيل، وبَسَطَهَا لنا فى دستور السماء والأرض القرآن الكريم ما معنى أن يقول الحق تبارك وتعالى لنا عن سيدنا نوح عليه السلام أنه مكث فى قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، أيها الدعاة.. تعالوا وتأمَّلوا الصبر على الدعوة إلى الله عز وجل، وعلى العطاء الذى لا حدود له، ثم فى النهاية يرفع أمره إلى الله مفوضًا إليه الأمر باسطًا فى شكواه، والله أعلم بها يُوضِّح العقبات التى صنعتها شياطين الإنس والجن أمام دعوته فى كل لحظة، ومع ذلك فنوح عليه السلام صابر مرابط يحمل على عينه وفوق رأسه ما كلَّفه الله به، ثم يقدم تقريره فيقول: "قَالَ رَبِّ إنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً ونَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إلا فِرَارًا * وإنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِى آذَانِهِمْ واسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وأَصَرُّوا واسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إنِّى أَعْلَنتُ لَهُمْ وأَسْرَرْتُ لَهُمْ إسْرَارًا" (نوح: 5 - 9). أترى قوم نوحٍ مجموعة من الدَّواب التى لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر؟ أهى أصنام بشرية؟ لكن الجانب الآخر فى النبى الكريم الذى صبر وصابر وحمل وتحمل أمام هؤلاء لم يتغير لمواقفهم، ولم يجلس فى بيته، ولم يركن إلى الدنيا، بل عمل وأخذ فى الأسباب كما كلَّفه الله عز وجل، وهزم بإرادته وعزيمته شياطين الإنس والجن، ونفَّذَ أمرًا واحدًا صدر إليه من مالك الملك ومُدبِّر الأمر سبحانه وتعالى. والنَّماذج فى القرآن التى يجب أن نقتدى بها، وأن نسير على دربها كثيرة، وها هو سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام يدعو قومه إلى الإيمان بالله تعالى واتباع أوامره والوقوف عند حدوده، فكيف قابل الباطل دعوة التَّوْحِيد الطريق الوحيد إلى الفوز فى الدنيا والآخرة، فقد قرَّروا إحراقه بالنار، وصنعوا محرقة وصل لهيبها إلى عنان السماء، وأسهم الجميع فى إشعالها حتى النِّساء، وجِىء بسيدنا إبراهيم عليه السلام.. العجيب أنه فى هذه اللحظات يأتيه جبريل عليه السلام فى إحدى الروايات، فيقول له: ألك حاجة؟ وهنا يظهر قيمة الإيمان واليقين بالله سبحانه، فيردّ عليه قائلاً: أما إليك فلا، وأما إلى الله فعلمه بحالى يُغْنِى عن سؤالى، وهنا يصدُرُ الأمر الإلهى فتفقد النار خاصِّيتها التى وضعها الله فيها وهى الإحراق: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِى بَرْدًا وسَلامًا عَلَى إبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]، ويخرج إبراهيم من النار يمشى، وصدق الله العظيم الذى قال: "وأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ" [الأنبياء: 70]. أليس الخليل قدوة لكم أيها الدعاة؟.. أما وقفتم أمام هذا المشهد؟ أما تأمَّلتم أبعاده؟ أما سألتم أنفسكم لما قصَّه الله عز وجل علينا، وأصبح قرآنًا يُتْلَى إلى يوم القيامة؟ ما قيمة أهل الباطل جميعًا وما وزنهم؟ ما وزن فاروق وعصابته؟ وما وزن عبد الناصر ومن وراءه ومن خلفه ممن دفعوه لهذا الإجرام مع أصدق فئة التزمت بالحق كاملاً ودعت إليه بحكمة وصبر وأدبٍ عالٍ؟ ماذا عمل بسجونه وبقتل بالإخوان داخل الزنازين وخارجها؟! وماذا فعل السادات حين زجَّ بالإخوان إلى داخل السجون مرة أخرى؟! وماذا فعل المخلوع حين عادى الإخوان واضطهد جميع الإسلاميين؟! وفى الوقت نفسه يراه الناس يُعانِق رُسُل اليهود الذين يأتون من إسرائيل، وفى الوقت نفسه يرفض أن يتفاهم أو يستمع إلى رجال الإسلام ودعاته، إن الذين يتحدَّثون اليوم عن المخلوع يجب أن يُخْلَعُوا من مواقعهم، وأن يختفوا بعدما كذبوا وسرقوا ملايين الملايين، وأساءوا فى حق أمتهم، وفى عهودهم كَثُر عدد المظلومين والضائعين الذين اتَّخذوا من شدَّة فقرهم القبور مساكن لهم، وكثر عدد المظلومين الذين ضاعت حقوقهم، وزاد عدد الأتباع الذين تملكوا الأرض والثمن هو نفاقهم وكذبهم وغشُّهم، والحمد لله فقد زالت الغُمَّة وانكشف الغطاء، وأصبحوا هم وحدهم لا يرضون عن المصلحين "الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ"، ثم استقاموا على أمره، بل يحاول هؤلاء أن يُوقِدوا فِتَنًا لا تحرق أحدًا إلا هم، ولو كنا شعبًا يَقِظًا لرددنا هؤلاء على أعقابهم بدل أن يتغنَّى بهم بعض المأجورين ممن يُسمون أنفسهم بالإعلاميين. يجب أن يُوقَف كل إنسان عند حَدِّه فلا يتعدَّاه، ولسانه الذى يثرثر به ويكذب به وينافق به بحجة حرية الرأى، وهى حرية مكذوبة على الله ورسوله وعلى الناس يجب أن ينتهى هذا الرُّكَام؛ لأن رائحته تزكم الأنوف، وقد فاحت كثيرًا رائحة المؤمرات، ويجب أن يعلم الجميع من هؤلاء وغيرهم أن الإخوان ومن معهم من الإسلاميين صابرون ينتظرون إنهاء هذه الأوضاع الشَّاذَّة التى ما أنزل الله بها من سلطان، حسب القانون الذى يضع كل شىء فى مكانه الصحيح، وإنا لمنتظرون. أما القدوة الثالثة: فهى القدوة العالمية إمام الأنبياء والرَّحمة المهداة والنِّعمة المُسْداة سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم الذى بُعِثَ للناس كافة، والذى يكفى لأى مخلوق أن يسمع باسمه لوجوب الإيمان به، يقول صلى الله عليه وسلم: ((لا يسمع بى أحد يهودى أو نصرانى، ثم لم يؤمن بالذى أرسلت به إلا كان من أهل النار)). هذه القدوة صلى الله عليه وسلم هو رسول الله إلى الإنس والجن، يجب على كل مسلم أن يُحِبّه، وأن يقترب منه، وأن يقتدى به فى كل شىء.. فى بيته، وفى أعماله، وفى دعوته، وفى صبره، وفى استقامته، وفى عفوه وبِرِّه، وفى معاملته لأهله وللناس أجمعين، كيف لا وقد قال الحق تبارك وتعالى لنا فى وضوح وجلاء: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا" [الأحزاب: 21]، قد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى أول الدعوة "يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ" [المدثر: 1، 2]، فتقبل صلى الله عليه وسلم فقام ولم يهدأ، ولم يَعِش كما نعيش، بل أنذر وبشَّر ودعا قومه، ودعا الجنَّ، ودعا الأبيض والأسود، ودعا الحُرّ والعبد، ودعا البعيد والقريب، ودعا القوى والضعيف، ودعا الحاكم والمحكوم، ودعا الغنى والفقير، ودعا الشيخ والشاب، كما يقول القرآن: "تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا" [الفرقان: 1]. قالت له السيدة خديجة رضى الله عنها يومًا استرح لما رأت متاعبه، فقال لها: ((مَضَى عهد النَّوْم يا خديجة))، فلم يستَرِح ولم يَنَم ولم يترك دقيقة من وقته إلا قضاها فى العمل النافع والمفيد للإسلام ولجميع خلق الله تعالى. أيها الأحباب.. ما لكم لا تقتدون بأولى العزم الذين ذكرناهم فى هذا المقال، وتفعلون مثل ما فعلوا من صبر ومصابرة.. قد يقال إن هؤلاء أنبياء، لكن لا بد من الاقتداء بهم والسير على منهاهجم، وتنفيذ كل ما أشاروا إليه ودعوا له، ولا بد لنا من الثَّبات على الحق، ولا بد لنا من التَّضْحِية بكل غالٍ وثمين، ولا بد لنا من اتهام أنفسنا بالتقصير، ولا بد لنا أن نكون عونًا لكل مَنْ يدعو إلى ما ندعو إليه، ولا بد لنا أن نقول ما قال أسلافنا: أَبِى الإسلامُ لا أَبَ لى سِوَاهُ *** إِذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيمِ والله أكبر ولله الحمد