أعتذر لقرائى الكرام عن عدم الكتابة خلال الأسبوع الماضى، حيث سافرت إلى ألمانيا لحضور المؤتمر الثانى للبحر المتوسط فى برلين يوم 25 إبريل. كانت الرحلة شاقة، لكن المشاركة فى مؤتمر اليوم الواحد قد أتاح لى أن أقدم رؤية جديدة فى ورقة عنوانها "مستقبل الإسلام السياسى فى دول الربيع العربى". كما أننى استمعت إلى أفكار وآراء جديدة يمكن أن تسهم فى تشكيل مستقبل العلاقات مع أوروبا بشكل عام ومع ألمانيا بشكل خاص. ولأننى أبحث عن فرصة لنشر الورقة التى تقدمت بها للمؤتمر بشكل كامل، فإننى سأركز فى هذا المقال على آراء وأفكار الأوربيين، وعلى بعض الأفكار التى طرحتها فى هذا المؤتمر كرد على بعض الأسئلة التى وجهت لى، من أهم الآراء التى شهدها هذا المؤتمر ما قدمته السيدة موريل اسبورج الباحثة بمعهد برلين للعلاقات الدولية، حيث قالت: إن الثورات العربية غيرت نظرة الأوروبيين إلى العرب، وشكلت فرصة لأوروبا لإطلاق عملية تحول وتعزيز العلاقات بين أوروبا والعالم العربى. حرصت فى ردى على الأسئلة أن أركز على هذه النقطة، فقلت "إن على أوروبا أن تدرك أن عصر الاستعمار والتبعية قد انتهى، وأن الثورات العربية قد شكلت عصرًا جديدًا يجب أن تقوم فيه العلاقات بين أوروبا والدول العربية على أساس الندية والتكافؤ والمصالح المتبادلة والتفاهم المشترك للمحافظة على السلام العالمى، واحترام حق الشعوب فى التنمية واختيار نظمها السياسية دون تدخل خارجى". السيدة اسبورج أكدت هذه النقطة، وأنه ليس من حق أوروبا أن تفرض على الشعوب كيف تحكم، ومن الضرورى أن نحترم حق الشعوب فى اختيار نظمها، لكنها وجهت النقد لأوروبا، حيث قالت: إنه قد بدأ تعديل خجول فى السياسات الأوروبية، لكن لم ينجح الأوروبيون حتى الآن فى التوصل إلى سياسات جديدة فى العالم العربى، واقترحت أن تقوم أوروبا بمبادرات ثنائية مع دول الربيع العربى لاستيراد المنتجات الزراعية العربية دون جمارك، وتسهيل انتقال رجال الأعمال العرب والتبادل العلمى، وتسهيل هجرة العمالة المدربة إلى أوروبا، وأشارت إلى مشروع عقدته ألمانيا مع تونس لتدريب عدد كبير من المهندسين، ثم يتم فتح المجال أمامهم للعمل فى ألمانيا أو العودة إلى تونس، ويطلق على هذا المشروع "شراكة من أجل حرية الانتقال" وأشارت إلى أن مصر لم تهتم بهذا المشروع. لم أعلق على ذلك لأننى لم يمكن لدى معلومات عن موقف مصر، لكننى أرى أنه من الضرورى أن نبحث الأمر فى إطار إستراتيجية وطنية شاملة لتوظيف الثورة البشرية، والتوصل إلى حلول مبدعة لمشكلة البطالة، فأوروبا كما فهمت من كلام السيدة اسبورج تحتاج إلى عمالة قاهرة، وكفاءات علمية، خاصة فى مجال الهندسة والتكنولوجيا، وهذا يمكن أن يفتح لنا مجالات كبيرة فى المستقبل لتحسين نوعية التعليم والتدريب فى جامعاتنا، وإنشاء جامعات جديدة، والتركيز على كليات الهندسة والحاسبات والمعلومات والعلوم التطبيقية، وفى الوقت نفسه تأهيل الخريجين من هذه الكليات للعمل فى أوروبا عن طريق تعليمهم اللغات الأوروبية، وربطهم بالوطن وزيادة الانتماء الوطنى وتأهيلهم ثقافيًّا للتعامل مع الآخر، وتعليمهم بعض العلوم الحديثة التى يمكن أن تستخدم فى تحقيق أهداف وطنية وثقافية مثل الدبلوماسية العامة وعلوم ومهارات الاتصال. إن هذا يمكن أن يشكل حلًّا مبدعًا لمشكلة البطالة، وفى الوقت نفسه يزيد قوة مصر الحضارية والثقافية والسياسية. وبالتأكيد فإن أوروبا يمكن أن تهتم بهذا المشروع وتستفيد منه، فهى تريد أن تكافح الهجرة غير الشرعية التى تغرق أوروبا بعمالة غير ماهرة، فى الوقت الذى نحتاج فيه إلى هجرة شرعية تحصل فيها على عقول مبدعة وكفاءات تعمل فى مجالات الصناعة والتكنولوجيا. ومصر أيضًا تحتاج إلى تعليم شبابها وتدريبهم، والحصول على أفكار جديدة تزيد قوتها فى بناء الاقتصاد القائم على المعرفة، وهؤلاء الشباب لن يبخلوا على وطنهم بما يحصلون عليه من خبرات خلال عملهم فى الدول الأوروبية. وعلى الأقل فإن أوروبا تحتاج خلال سنوات قليلة إلى أكثر من عشرة ملايين من العمالة المدربة والماهرة. فى رحلة العودة شاهدت فى مطار برلين عددًا كبيرًا من الصينيين الذين سيتم نقلهم إلى مدينة أخرى فى ألمانيا، وأدركت أن الكثير من الدول تتنافس على توفير فرص لعمالها، وتوظيف ثورتها البشرية، وأن شركات جلب العمالة المدربة فى أوروبا تعمل بشكل مستمر لتوفير هؤلاء العمال للمصانع الأوروبية، فقد تناقصت نسبة الشباب فى المجتمعات الأوروبية وزادت نسبة المسنين نتيجة تناقص نسب المواليد والوفيات. على الرغم من أن السيدة اسبورج قد طالبت بمحاربة ومكافحة المهربين والمتاجرين بالبشر وإعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى دولهم، إلا أنها طالبت بزيادة الحماية القانونية والقضائية للمهاجرين الشرعيين فى الدول الأوروبية، كما طالبت بالاعتراف بشهاداتهم الجامعية عند العودة إلى دولهم. هكذا نصبح أمام واقع جديد يتشكل فى أوروبا وفى الدول العربية التى شهدت ثورات شكلت نظمًا سياسية جديدة، وهذا الواقع يجب دراسته بشكل متعمق والاستفادة منه والتوصل إلى اتفاقيات تضمن حقوق المهاجرين من العمال المصريين بعد تدريبهم وتعليمهم ليتحولوا إلى كفاءات ماهرة يكون لهم وزنهم النسبى المتميز فى سوق العمل. لخصت السيدة موريل اسبورج نتائج دراستها فيما يلى: 1- يجب أن تتحلى أوروبا بالتواضع وتسهم فى خلق بيئة ملائمة لإقامة دول ديمقراطية. 2- التركيز على البعد الاجتماعى مثل التعليم، والتبادل المثمر بين ضفتى المتوسط. ولأن هذا المقال لا يحتمل المزيد، فقد ركزت فيه على قضية الهجرة باعتبارها المدخل الذى يمكن أن يشكل العلاقات فى المستقبل بين مصر ودول أوروبا، وكيف يمكن أن نوظف ثروتنا البشرية لنحولها إلى مصدر قوة اقتصادية وسياسية وثقافية لمصر.