أزعم أن ثقافة المصريين فى التعاطى مع الحياة بشئونها المختلفة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، لم تتغير كثيرا بعد الثورة، فكل من هو فى موقع مسئولية متهم إلى أن يثبت العكس، وإذا ثبت العكس بأدلة وبراهين واضحة سرعان ما تبدأ ماكينات التشكيك والتهوين فى الدوران، وكأننا نريد دائما هدم كل جميل فى حياتنا، والحيلولة دون تقدم من أى نوع. الحزن والغم والهم والنكد والخوف من المستقبل، كلها مفردات مسيطرة على العقلية المصرية قديما وحديثا، والتطلع للمستقبل بروح جديدة وبأمل وتفاؤل ليس من موروثاتنا الثقافية والوجدانية، ولا يبدو أنه سيكون فى الأفق القريب، وكأن المصريين مجبولون على استحضار ما يضايقهم دائما، وطوال الوقت تجدهم شكائين بكائين لا يجدون فيما بين أيديهم ما يسر أبدا، ولا يستدعون أسباب الفرح التى تكون حاضرة بقوة، لكنهم لا يدركون وجودها ولا يوظفونها بشكل صحيح، بل يصل الأمر أنه إذا فرح الناس للحظات وانطلقت ضحكاتهم العفوية سرعان ما يقولون: "خير اللهم اجعله خير"! لا تتعجب بعد ذلك أن تجد فى قاموس المصريين عبارات من قبيل "الرئيس خربها"، لا فارق فى ذلك بين قديم وجديد، وعبارات أخرى تختزل الصورة كلها فى وجود فقر مدقع وكرب لا ينتهى، قد تكون سمعتها قبل عشرين أو ثلاثين عاما وما زلت تسمعها حتى الآن، من أمثال: "دا احنا مش لاقيين ناكل"، "مش عارفين نعيش" "العالم مطحونة"، "كل مدى كل ما الفقر يزيد"، "ما هم فوق واكلينها والعة ومش حاسين بالغلابة"، "أنا عندى (عدد) عيال فى المدارس وأمهم مريضة ومش قادر اصرف عليهم، منها لله الحكومة" وأكثر من ذلك. صحيح أن هذه العبارات تكشف واقعا صعبا، لكنها لا تخلو من مبالغات أحيانا، ولا تعنى غالبا ما يقصده أصحابها بالضبط، فالفقر نسبى وكذلك الجوع، وكلاهما يتغير من آن لآخر، وربما من يشتكى من كليهما لا يعانى وجودهما أصلا، إذ يأكل ثلاثة أرغفة أو أكثر فى الوجبة الواحدة ويقول لك: "مش لاقيين رغيف العيش"، ويصرف خمسة جنيهات وأكثر فى جلسة على المقهى ويصرخ: "مش لاقيين الجنيه"!! حتى على مستوى أعلى، نلحظ أن السياسيين -وكلهم مستورون ولله الحمد- يتعاطون مع قضايا الوطن العامة بنفس منطق البسطاء، فيستدعون فى خطابهم أقصى ما يمكن أن يؤدى إلى التشاؤم، وينحون دائما منحى "التعميم" فى تصريحاتهم التى تكون إنشائية بامتياز، ومواقفهم التى تبنى على أسباب نفسية وليست موضوعية، ومن ذلك قول بعضهم قبل أيام: "الرئيس أحبط المصريين"، وهى عبارة قد تقرؤها فى كل عصر، ولا يستبين منها أن هناك ثورة قد قامت، وعندما تطالع بياناتهم ستجدها نسخة متكررة من السابق، عدا تغيير الأسماء والمناسبة، وهذا يمثل فشلا سياسيا وعدم قدرة على تبنى برامج واضحة للمستقبل، ويؤكد ما ذهبنا إليه من أننا سنظل ندور فى فلك الموروث الثقافى "البكائى" حتى حين. آمل أن تتبنى مؤسسات الدولة التعليمية والإعلامية برامج جديدة لانتزاع المصريين من الحالة التشاؤمية المسيطرة عليهم دائما، ليس بالكذب والكلام المرسل، وإنما ببيان إمكانيات الدولة وواقعها المبشر بعد الثورة، وإمكانية أن يكون المواطنون شركاء فى الحل لا جزءا من المشكلة، فبعد أن تحررنا سياسيا لم يعد مقبولا أن نبقى فى هذه "المحزنة" إلى الأبد، وليس هناك ما يحول بيننا وبين التقدم بكل صوره، وهذا بالطبع لا يعفى القائمين على الأمر من وضع وتنفيذ برامج تشعر الناس فعلا بأن الثورة قامت من أجلهم، كما لا يعفى المواطن من المسئولية، فأقل ما يمكن أن يقوم به هو أن يعمل وينتج ويتحرى الدقة فيما يقول ويفعل، لا أن يردد عبارات مرسلة دون أن يسأل نفسه: "ماذا فعلت لبلدى؟"! مطلوب على وجه السرعة أن تغير جميع مؤسسات الدولة أسلوبها فى التعاطى مع المواطنين باحترامهم وإنجاز مصالحهم بالسرعة والكفاءة المطلوبة، حتى يمكن تصحيح رؤية المواطن لنفسه ولبلده، بعد ثورة نظر إليها العالم بكل إعجاب وتقدير، وما زلنا ننظر إليها -للأسف- بكثير من الشك والريبة.