الفنون على وجهين: الأول أن يصنع المبدع فنه، مفترضًا ذكاء المتلقى؛ لذا يجعله شريكًا فى إبداعه متفاعلًا معه، أما الوجه الآخر فيعمل الفنان وهو يعتقد غباء المتلقى، وبالتالى يقوم بوضع خطوط وتأكيدات على المناطق التى يريدها أن تصل لهذا المتلقى وكأنه يسقيه هذا الفن بالملعقة. العرض المسرحى "المحروس والمحروسة" الذى تقدمه فرقة المسرح القومى على خشبة مسرح ميامى، له هذان الوجهان، حيث يتمثل الوجه الأول فى النص الذى كتبه الكاتب المسرحى محمد أبو العلا السلامونى، فقد كتب ذلك النص وقامت الهيئة المصرية العامة للكتاب بطبعه فى نسخته الأولى العام الماضى لنجد نصًّا يرتقى إلى النصوص العالمية الخالدة، فهو يستخدم الحادثة التاريخية ليعلق عليها أفكاره ويطرح رؤاه دون إغلاق المعنى أو حبس ذهن المتلقى فى زاوية معينة. أما الجانب الثانى فى تناول النص فجاء من خلال المخرج شادى سرور الذى استخدم نص السلامونى ليقدم فيه رسائل جاهزة تصل إلى حد المباشرة الفجة، معتمدًا على غباء الجمهور أو المتلقى، ودون ترك المساحة لإعمال عقله وذهنه، أو جعله شريكا فى قراءة العرض، بدلا من إطعامه المعنى الذى يقصده. تدور أحداث المسرحية فى لحظة تاريخية فارقة، وهى موت الملك نجم الدين أيوب حاكم مصر، واعتلاء زوجته شجرة الدر العرش، وحكمها باسمه، بينما الفرنجة "الصليبيون" على الأبواب، فتكتم هذا الخبر عن الجنود لينتصروا فى المعركة، ويأسروا قائد الحملة الملك لويس التاسع عشر ملك فرنسا. وتستدعى شجرة الدر ابن الملك توران شاه ليستلم الملك من بعد أبيه، مضحية بالملك الذى كان من الممكن أن يصير لولدها، فيضربها توران شاه ويعيدها كجارية فى القصر، فيقتل، فتعتلى الحكم مرة أخرى، فيرسل المستعصم آخر خليفة فى الدولة العباسية لأهل مصر برسالة، مفادها إن لم يكن فى مصر رجال للحكم فلنرسل لكم بأحدهم ليقوم بهذا المقام. فتقوم شجرة الدر بالزواج من عز الدين أيبك أحد مماليك الملك نجم الدين أيوب، شريطة أن يطلق زوجته الأولى أم على، فيتفق مع زوجته على الطلاق، وأن يعيدها بعد أن يتم الزواج، وبعد اعتلاء أيبك الحكم تقوم شجرة الدر بقتله حتى لا يصير الملك له، فتقوم أم على بقتل شجرة الدر فى الحمام ضربا بالقباقيب، فيحاصرها بعض الناس فى أحد الأبراج لتقوم بطحن التاج وإلقائه على الناس. ويتبع ذلك سقوط بغداد فى يد التتار، ويقتل المستعصم الخليفة العباسى الذى جاءته الخيانة من أقرب أقربائه، وهو ابن العلقم وزيره، الذى تعاون مع التتار، وخان الخلافة، ولم يحارب؛ أملا فى وعد التتار بأن يكون هو حاكم بغداد. ويتخذ الكاتب من هذه القصة الرئيسية حكاية ضمنية، يحاول من خلالها تأويل وتفسير مجريات هذه الأحداث، فحكايته الضمنية هى نزوح إحدى جوارى شجرة الدر إلى بغداد، وإقامتها لحانة يتجمع فيها السكارى، بينما يقوم الخليفة المستعصم بالتنكر والنزول بصحبة وزيره العلقمى، للتعرف على أحوال البلاد والعباد، كما كان يفعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- فيأخذ الوزير الخليفة إلى حانة مليئة بالسكارى؛ معللا ذلك بأن غياب العقل الظاهر يساعد على إطلاق العقل الباطن. فيجد الخليفة أن صاحبة الحانة تقوم بعمل تشخيص كما يفعل فى بلاد الروم لحكاية شجرة الدر، مستخدمة سكارى ورواد الحانة فى تشخيص شخصيات الحكاية، مستعرضة خلافها مع المستعصم، وعندما يجد الخليفة أن هناك بعض التجنى عليه يقوم بالدخول فى لعبتها التمثيلية مجسدا دور الخليفة الذى لم يسبقه إلى تجسيده أحد خوفا من العقاب... حتى نصل إلى سقوط بغداد مقر الخلافة العباسية فى يد التتار، ليعلن المستعصم حزنه الشديد على ضياع الملك، فيطلب أن يعاد صياغة الحكاية لكى يحكم المستعصم بالحب. ويفوض المستعصم شجرة الدر فى شئون الحرب لتنتصر هى على التتار، بينما يتشاجر كل من المستعصم والوزير العلقمى فى شئون الحكم التافهة. استهل المخرج عمله باستعراض طويل جدا عن المسرح ولعبة التمثيل، وهو ما لم يكن مبررا سوى لعمل استعراض افتتاحى، لتبدأ أحداث المسرحية الفعلية بعد قرابة ال15 دقيقة، وقام بتصميم الديكور الدكتور محمد سعد، الذى قام بعمل مدخل الحانة من أعلى يسار المتفرج لينزل الداخلون إلى الحانة من أعلى، بينما وضع على يمين المتفرج خشبة التشخيص وبها عرش الحكم. كما وقع المخرج فى فخ مراوغة العلامة، فقد حاول منذ اللحظة الأولى أن يقنع المتلقى بأن ابن العلقمى وزير المستعصم ما هو إلا مستشار يقول رأيه فقط للحاكم، ويفعل الحاكم ما يريد، بدعوى أنه هو المسئول عن كل شىء لنجده فى النهاية يعترف بأنه كان يعمل على أن يكره الناس المستعصم ويلعنوه فى السر والعلن، فقد كان على يقين بأن المستعصم لا يثق فيه. وأضاف أنه كان يملك فى استشارته رأيين: رأى خطأ، سيزيد من كراهية الناس للمستعصم، وسيزيد الأزمات التى تعيشها الدولة. ورأى صواب، كان يقوله للمستعصم لمعرفته بأن الخليفة سيفعل عكس ما يقوله له، فيقوم بتنفيذ الرأى الخطأ، ولنكتشف فى النهاية أن هذا الشخص تعامل مع التتار، وهو كان مفتاح نصرهم بخيانته. على الرغم من مرض الفنان أحمد راتب، إلا أنه كان أكثر الممثلين حرفية وأداء، فقد قام بدور الخليفة المستعصم عن طريق السهل الممتنع، بينما كانت سوسن بدر التى قامت بدور شجرة الدر مخيبة للآمال، فهى ممثلة كبيرة، وكان من الممكن أن تجعل من هذا الدور دورا أفضل لو عملت على أبعاد الشخصية أكثر، بينما أدت لقاء سويدان دور ساقية الحانة وأم على وزوجة لويس التاسع، ولم تقدم فيه الكثير من رسم لأبعاد شخصياتها المختلفة، ولكن كان تركيزها الأكبر على الغناء والاستعراضات التى تشارك فيها، بينما كان المخرج شادى سرور يؤدى دور الوزير العلقمى، الذى وقع فى فخ المخرج، الذى يقوم بأداء دور فى عمل من إخراجه، فهو يقوم بأداء دوره، وفى الوقت نفسه يوجه الممثلين على المسرح فى أثناء العرض، وهو ما جعله أكثر تشتتًا. وقدم العرض مجموعة رائعة من الشباب، وفى مقدمتهم الممثل مجدى رشوان، الذى قام بدور أيبك فى دراسة ودقة وقدرة على أداء الدور باللغة العربية الفصحى دون إحساس بأى تكلف أو تصنع، كما قام أحمد عثمان بدور هولاكو فى شكل كاريكاتيرى بارع ينبئ عن موهبة تمثيلية قادمة، بالإضافة إلى مجموعة من الشباب الذين اشتركوا من قبل فى عرض شيزلونج الذى قدم على خشبة المسرح العائم ومن إنتاج مسرح الشباب الذى يديره المخرج شادى سرور.