يقوم النظام الاقتصادى السليم على وجود سوق حرة نظيفة من الاحتكار والغش والغرر والتدليس وكل صور أكل أموال الناس بالباطل، ويتوافر فيها مجموعة من الخصال منها: حرية المعاملات والمنافسة المشروعة، وتوافر المعلومات الصادقة والأمينة، ويحكم المتعاملون فيها مجموعة من القيم والأخلاق والسلوك السوى والحنكة والخبرة والرشد.. ففى ظل ذلك تؤدى السوق وظائفها المنشودة ويحقق النظام الاقتصادى مقاصده المرجّوة، وعندما تختل السوق ويسود فيها الاحتكار والغش والكذب والغرر والجهالة والتدليس، وتخفى عنها المعلومات الصادقة وتشيع المعلومات والإشاعات الكاذبة فإن هذا يؤدى إلى تقلبات فى المعاملات الاقتصادية وتحدث الفوضى وتفقد الثقة وتضيع الحقوق، وهذا يقود إلى جريمة أكل أموال الناس بالباطل وهذا منهى عنه فى الإسلام. ومن أخطر ما يهدد اقتصاد أى دولة هو غياب المعلومات الصادقة الأمينة وانتشار الشائعات الكاذبة المغرضة التى من مآربها أكل أموال الناس بالباطل، وفى هذه الدراسة المتعمقة المختصرة سوف نعرض مفهوم كل من الشفافية (المصداقية) والشائعات الكاذبة وبيان أثرهما على آلية المعاملات الاقتصادية فى ضوء الفكر الإسلامى، وحكم جريمة الشائعات الكاذبة فى الأسواق فى ضوء ميزان الشريعة الإسلامية. أثر المصداقية والشفافية فى استقرار المعاملات الاقتصادية: يؤكد علماء الاقتصاد ضرورة توافر المعلومات الصادقة عن المعاملات فى الأسواق، وكلما كانت هذه المعلومات شاملة وسريعة ودقيقة وأمينة، استقرت المعاملات فى السوق وتحقق السعر العدل، وتحاول الوحدات الاقتصادية الجادة من جهة والأجهزة الحكومية المنضبطة من جهة أخرى تزويد المتعاملين فى الأسواق وغيرهم بهذه المعلومات بواسطة أجهزة الإعلام المختلفة، ويسهم الاستقرار السياسى السليم الحر القائم على الديمقراطية فى تحقيق الشفافية حتى لا تثار الشائعات، ومن مسئولية الحكومة التدقيق والمراقبة على صحة المعلومات السائدة، وتصويبها ونشر الصدق ودحض الكذب، كما يجب على كافة أجهزة ووسائل الإعلام تحرى الصدق فى كل ما ينشر، واعتبار ذلك من الموجبات الإعلامية، ومن ميثاق شرف المهنة، ومن لا يلتزم بذلك يعد قد ارتكب كبيرة من الكبائر وهى الكذب. أثر المصداقية والشفافية على استقرار المعاملات الاقتصادية فى ميزان الشريعة الإسلامية: لقد كان للإسلام فضل السبق فى التأكيد على فرضية توافر المعلومات الصادقة الأمينة عند التعامل بصفة عامة، وفى مجال الأسواق بصفة خاصة، ولهذا المبدأ أدلته من القرآن والسنة والفقه الإسلامى، يقول الله عز وجل: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [(التوبة: 119)، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)) (الترمذى)، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما فى بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)) (متفق عليه)، ويؤكد الفقهاء أن أى عقد بُنِى على معلومات مضللة فهو باطل أو فاسد حسب الأحوال. ولقد حرمت الشريعة الإسلامية مجموعة من البيوع؛ لأنها تقوم على إخفاء المعلومات الصحيحة عن المتعاملين مثل: (لا يبيع الحاضر للبادى)، (ولا تلقى الركبان)؛ حيث كان التجار من الحضر يخرجون خارج السوق ويقابلون القادمين من البدو ويحجبون عنهم المعلومات عن السوق وفى هذا غرر وجهالة، فعن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أن يبيع حاضر لباد" (الترمذى)، ونهى كذلك عن تلقى الركبان. (البخارى). ولقد كان من وظائف نظام الحسبة فى الإسلام الرقابة على الأسواق للتأكد من أن المتعاملين يلتزمون بالصدق والأمانة والشفافية فى المعلومات فى الأسواق، وكان للمحتسب سلطات توقيع العقوبة على المخالفين، وبذلك حققت السوق فى الإسلام مقاصد الشريعة الإسلامية ومنها حفظ المال. أثر المعلومات والشائعات الكاذبة والمغرضة على استقرار المعاملات الاقتصادية فى ميزان الشريعة الإسلامية: من الشوائب والمخالفات التى تسود معظم المعاملات الاقتصادية، لا سيما فى الدول المتخلفة فى الأسواق، انتشار المعلومات الكاذبة، وافتعال شائعات لا أساس لها من الصحة بهدف إحداث تأثير معين على المتعاملين، وتحقيق من وراء ذلك مغانم دون وجه حق، ومن النماذج المعاصرة لذلك ما يلى: - نموذج انتشار شائعة فى سوق الأوراق المالية (البورصة) بأن سهم شركة كذا.. سوف يصعد ويرتفع ثمنه بهدف خلق طلب مفتعل عليه ويرتفع ثمنه مؤقتًا، فيقوم بعض التجار بالبيع، ثم بعد فترة وجيزة تظهر الحقيقة وأن هذا كان إشاعة كاذبة فينخفض السعر مرة أخرى، وهذا من نماذج التدليس وأكل أموال الناس بالباطل. - نموذج انتشار شائعة بأن هناك عجزًا فى ميزانية الدولة.. وهناك تفكير من الحكومة بخفض قيمة العملة، وهذا يجعل الناس تهرول إلى شراء الدولارات، فيرتفع سعرها خشية انخفاض العملة الوطنية، وهذا كله مبنى على إشاعات كاذبة تسبب أضرارًا فادحة بالاقتصاد القومى. - ومن نماذج الشائعات الكاذبة المغرضة كذلك انتشار خبر أن بنك كذا سوف يفلس لأن أحد عملائه أخذ منه مليارات وهرب، فيهرع الناس إلى سحب ودائعهم من البنك، فينهار.. وهذه الشائعات الكاذبة تسبب ضررًا على الاقتصاد القومى فيجب دحضها. - ومن نماذج الشائعات الكاذبة والمغرضة ذات المغزى السياسى؛ هو أن الاقتصاد على حافة الإفلاس، أو أن الحكومة القائمة فاشلة وسوف تقال وسوف تشكل حكومة إنقاذ جديدة. - ومن نماذج الشائعات الكاذبة أن الحكومة القائمة سوف تبيع المشروعات القومية الإستراتيجية للأجانب؛ مثل قناة السويس، وميدان العتبة، وميدان التحرير.. وغاية الغايات من هذه الشائعات الاقتصادية ذات المآرب السياسية الخسيسة والمأجورة إحداث فوضى سياسية بهدف الوصول إلى الحكم بأساليب غير مشروعة وغير دستورية. وكل هذه النماذج من الشائعات الكاذبة المغرضة من الجرائم التى يعاقب عليها من يرتكبها وفقا للدستور والقانون والشرع. تجريم الشائعات الكاذبة المغرضة وعقوبتها فى ضوء الشريعة الإسلامية: لقد حرم الإسلام الشائعات الكاذبة بكل صورها، وأمر المسلمين بالتبين والتأكد من صحة المعلومات التى ترد إليهم، ودليل ذلك من الكتاب قول الله تبارك وتعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [(الحجرات: 6)، وتشير هذه الآية إلى ضرورة التحقق من صحة المعلومات للاطمئنان من مصداقيتها حتى لا يترتب على ذلك أضرارًا كثيرة، والدليل من السنة النبوية الشريفة هو قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((أربعة يبغضهم الله: البيَّاع الحلاف، والفقير المختال، والشيخ الزانى، والإمام الجائر)) (النسائى وابن حبان)، وفى حديث آخر يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: أشيمط زان، وعائل متكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يبيع إلا بيمينه، ولا يشترى إلا بيمينه)) (الطبرانى)، ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التجار عن الحلف الكذب، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن التجار هم الفجار، قالوا: يا رسول الله أليس الله قد أحل البيع؟ قال: بلى، ولكنهم يحلفون فيأثمون ويحدثون فيكذبون)) (رواه أحمد والحاكم والطبرانى)، ويؤكد الرسول -صلى الله عليه وسلم- على حرمة الحلف الكذب، وأن هذا من الكبائر التى نهى الله عنها، فيقول صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أخذ، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماء، فيقول الله يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلى كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)). (البخارى). ولقد حرم الفقهاء مجموعة من المعاملات المالية؛ لأنها تقوم على الشائعات الكاذبة والمعلومات المضللة والغرر والجهالة والتدليس وأكل أموال الناس بالباطل، من هذه المعاملات على سبيل المثال ما يلى: - بيع المعدوم، وبيع معجوز التسليم. - والبيوع التى تتضمن الغرر الفاحش مثل بيوع الاختيارات فى البورصة والبيع على المكشوف فى البورصة وبيع الثمار قبل أن تخلق أو يبدو صلاحها. - وبيع المجهول والبيع المعلق على شرط مضاف إلى المستقبل. - وبيع النجش وهو الزيادة المفتعلة فى السعر بالتواطؤ مع البائع ونشر معلومات مضللة. - وبيع الحاضر للبادى وتلقى الركبان. ومن الحكمة الشرعية من تحريم هذه البيوع والمعاملات أنها تقوم على معلومات مضللة وشائعات كاذبة تسبب ضررًا بالمتعاملين وتؤدى إلى أكل أموال الناس بالباطل. خلاصة القول: لقد سبق الإسلام الفكر الاقتصادى الوضعى وتميز عليه فى تحريمه للشائعات الكاذبة المغرضة التى تسبب أضرارًا بالمتعاملين وتزعزع الثقة فى المعاملات.. مما يترتب على ذلك أكل أموال الناس بالباطل، واعتبر الإسلام المصداقية والشفافية من مقومات المعلومات العادلة التى تحقق السعر العدل للمتعاملين بلا وكس ولا شطط، وبهذا كان التاجر المسلم نموذجًا متميزًا فى قيمه وأخلاقه وسلوكه ومعاملاته الاقتصادية، واعتبر الفقهاء أن الشائعات الكاذبة والمغرضة من الجرائم التى يعاقب مرتكبوها وفقا للعقوبات التعزيرية التى يقرها القاضى الشرعى، وهذا من مسئولية ولى الأمر ومن مسئولية المجتمع، وفقا للقاعدة الشرعية: "ما يتم الواجب إلا به فهو واجب: ونذكر المسلمين بقول الله سبحانه وتعالى: ]أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ[ (الحديد: 16). فنحن جميعًا والعالم معنا فى حاجة إلى تطبيق شريعة الإسلام، ففيها العلاج الشافى لمشاكلنا المعاصرة، فإلى الإسلام يا من تريدون تطهير المعاملات الاقتصادية من الشائعات الكاذبة التى تؤدى إلى أكل أموال الناس بالباطل. والحمد لله الذى يقول الحق وهو يهدى السبيل وبنعمته تتم الصالحات.