بدأت فى الآونة الأخيرة بعض الأقلام تكتب عن الاقتصاد الإسلامى، فمنهم مَن فهمه وأنصفه، ومنهم من جهله وافترى عليه دون دليل قطعى البرهان؛ بسبب فكره المنحاز لأيديولوجية معينة، وهذا حقه الذى كفله له الإسلام؛ حيث قال الله عز وجل: "لًا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ"، ومن ثم لا إكراه فى الفكر، فحرية الرأى والفكر مكفولة فى الإسلام فى ضوء القيم والأخلاق والسلوك المستقيم. ومن حق فقهاء وعلماء وخبراء الفكر الاقتصادى الإسلامى أن يردوا على من لم يفهموا قواعده ومعاييره وأسسه وبرنامجه التطبيقى حتى يكونوا على بصيرة من رأيهم فى إطار أدب الرد الموضوعى المنضبط بقواعد الشريعة الإسلامية، وأصل ذلك من القرآن قول الله عز وجل: "وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ". وكان هذا هو المقصد من كتابة هذا الرد لمن يفترون على الاقتصاد الإسلامى جهلًا أو تجاهلًا. ومن دواعى ما دفعنى إلى كتابة هذه الدراسة هو ما كتبه الموقر المحترم الأستاذ الدكتور نادر فرجانى فى جريدة "الأهرام" يوم 20 أغسطس 2012 صفحة رقم 10 "قضايا وآراء – (اقتصاد إسلامى أو رأسمالى منتقب؟) مع التقدير والاحترام له، وقد أثار –على حد رأيه- بعض المسائل منها ما يلى: - يرى أن من يتكلمون عن الاقتصاد الإسلامى يعنون فى حقيقة الأمر اقتصادا رأسماليا قُحًّا ومنفلتا، ولا مانع من أن يكون احتكاريا. - يرى مدعو الإسلام السياسى تفضيل التجارة عن عمارة الأرض ولو شابها غش أو احتيال أو احتكار. - يرى الكاتب أن غالبية رجال الأعمال المنتمين للإسلام السياسى ليسوا إلا تجارا عزفوا بإصرار عن إقامة المشروعات الإنتاجية.. فهم محتكرون ولا نجد أى ذم للاحتكار. - يرى الكاتب أن البنوك المسماة بالإسلامية تخدع السذج (من المسلمين) بأنها لا تتعامل بالفائدة. - يتهم الكاتب الحكومة الحالية والدكتور محمد مرسى رئيس الجمهورية المنتخب، بأنه أبرم قرضا بفائدة مع البنك الإسلامى للتنمية بجدة مخالفا للشريعة. - يرى الكاتب مسائل أخرى لا يتسع المقام لسردها، ولكن مآربها الهجوم على الاقتصاد الإسلامى ومفكريه ومطبقيه. وحتى يمكن الرد على الأستاذ الدكتور نادر فرجانى وأمثاله من أصحاب الأيديولوجيات المناهضه للإسلام وللاقتصاد الإسلامى، لا بد أن نبين لهم: أولا: معنى الاقتصاد الإسلامى وخصائصه المميزة والفرق بينه وبين النظم الاقتصادية الوضعية، خصوصا الاشتراكية والرأسمالية وبرنامجه التطبيقى فى التنمية. ثم ثانيا: نرد على المسائل التى طرحوها بمعايير موضوعية قائمة على أدب الرد، كما تعلمناه من فقهائنا الكرام من السلف والخلف، وبعيدا عن التجريح والتهكم على الآخرين، وأصل ذلك من القرآن الكريم قول الله تبارك وتعالى: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ". ♦- ما المقصود بالنظام الاقتصادى الإسلامى؟ هو إدارة حلبة الأنشطة والمعاملات الاقتصادية والاستخدام الرشيد للموارد وفقا لأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية، والوسائل والأدوات والآليات المعاصرة فى دولة مدنية فى إطار الأصالة والمعاصرة، وبما يحقق التنمية الشاملة والحياة الكريمة لكل المواطنين. بمعنى إدارة المعاملات الاقتصادية فى دولة مدنية معاصرة بما لا يخالف أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية، وباستخدام الأساليب والأدوات الاقتصادية المعاصرة المشروعة وفقا للقاعدة: "الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها". وهذا النظام يختلف عن النظام الاقتصادى الاشتراكى ذى المرجعية الاشتراكية الوضعية، وعن النظام الاقتصادى الرأسمالى الليبرالى ذى المرجعية الرأسمالية الوضعية، وذلك من حيث: القيم والمثل والأخلاق والسلوكيات والمقاصد والمرجعية والآليات، على النحو الذى سوف نبينه بعد قليل. ولقد وُجه إلى النظم الاقتصادية الوضعية العديد من الانتقادات؛ حيث فشلت فى تحقيق الإشباع الروحى والمعنوى للإنسان؛ حيث ركزت فقط على الجانب المادى، وأهملت الجوانب الروحية والأخلاقية؛ لأنها تقوم على الفصل بين الاقتصاد والقيم الدينية والأخلاقية، وهذا ما يرفضه النظام الاقتصادى الإسلامى. فلقد أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المدينةالمنورة دولة مدنية، وكان من أركانها النظام الاقتصادى ذو المرجعية الإسلامية، ومن أهم معالمه: بناء السوق الحرة الطاهرة من الفساد، وتنشيط التجارة المحلية والعالمية، وإلغاء نظام الربا، وتطبيق نظام الزكاة والصدقات والوقف الخيرى، ونظام المواريث، وإنشاء بيت المال، ووضع نظام للرقابة على المعاملات أطلق عليه نظام "الحسبة"، وهذا كله وفقا لدستور متكامل للمعاملات الاقتصادية مستنبط من القرآن الكريم، وسار على هذا الدستور والمنهج الخلفاء الراشدون والتابعون وغيرهم مع تطوير إجراءاته وسبله وأدواته فى ضوء المتغيرات فى كل عصر وفقا لمبدأ الأصالة والمعاصرة. ولذلك فإنه خطأ ما يقال من أن الإسلام دين عبادات وطقوس وشعائر وليس له علاقة بشئون الحياة المدنية (سياسية، اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، تربوية...) أو أنهم لم يفهموا الإسلام فهما صحيحا فى ضوء القرآن والسنة والفقه والتطبيق السليم كما كان فى صدر الدولة الإسلامية، وربما اعتمد هؤلاء على كتابات المستشرقين ومَن فى حكمهم من العلمانيين الذين يفترون على الإسلام ظلما وعدوانا، وهل يمكن الاعتماد على خصوم الإسلام فى الحكم على الاقتصاد الإسلامى، ويدعون جهلا أو تجاهلا أنه اقتصاد رأسمالى قح، ومن مبادئه الاحتكار والتسلط والإفساد والإضرار بمجمل الناس، واستغلال سذاجة الناس من المسلمين، ونحو ذلك من الادعاءات المغرضة والافتراءات المرسلة دون دليل صادق وأمين. وفى هذا المقام يجب أن نؤكد القواعد الكلية الشرعية للاقتصاد الإسلامى، وهى ما يلى: - التزام المتعاملين بالقيم الإيمانية والأخلاقية والسلوكيات المستقيمة. - الالتزام بقواعد وأحكام الشريعة الإسلامية مع المعاصرة فى الوسائل والآليات. - الحرية الاقتصادية المنضبطة بقواعد وأحكام الشريعة الإسلامية. - التوازن بين الملكية الخاصة والملكية العامة فى ضوء المصالح العامة. - السوق الطاهرة من كل صور الفساد المالى والاقتصادى وتحريم الاحتكار والغش والغرر والجهالة والتدليس والميسر والربا وكل صور أكل أموال الناس بالباطل. - العدالة الاجتماعية، ومن وسائلها: الزكاة والصدقات والوقف والنذور والكفّارات والتكاليف المالية الأخرى. - العدالة فى توزيع الثروة بين المواطنين "يسعى بذمتهم أدناهم". وفى البند التالى بيان بأهم الخصائص المميزة للاقتصاد الإسلامى، والفرق بينه وبين النظم الاقتصادية الوضعية، اشتراكية كانت أم رأسمالية، حسب ما يتسع له المقام. وللحديث بقية إن شاء الله. -------------------- * الأستاذ بجامعة الأزهر