يتنقلون بين المحافظات ومن المدن الجامعية إلى السكن الخاص، حاملين أمتعتهم وحقائبهم الثقيلة فى رحلات أسبوعية أو شهرية بين محافظة الأهل ومحافظة العمل أو الدراسة، يعانون الحرمان من الجو الأسرى ودفئه فيتجه كل اهتماماتهم لدراستهم وعملهم.. إنهم المغتربون فى وطنهم. الكثير من الشباب تضطره الظروف، سواء كان مجموع الثانوية العامة الذى ينقله من محافظته وبيته إلى محافظة أخرى، أو تضطرهم سوق العمل إلى البحث عن وظائف خارج الريف، البعض لا يستطيع الاستمرار فى الغربة فيعود من حيث جاء، والكثير منهم ينقل حياته إلى المحافظة الجديدة؛ لأن له فيها طموحات وأهداف ورغم التعود على حياة الغربة إلا أنه مع المسئولية والمعاناة يظل يحن للجو الأسرى. الغربة للدراسة خالد على بالفرقة الثالثة بكلية الحقوق جاء من البحيرة مضطرا للسكن فى القاهرة طوال فترة الدراسة، ويقول: "الإهمال والتسيب جزء لا يتجزأ من حياة الطلاب نتيجة للبعد عن الأهل، وقد مررت بمشكلات خلال التيرم الأول بسبب بعض أصدقاء السوء الذين دفعونى لإهمال المذاكرة وكانت النتيجة مقبول، ورغم انتقالى للسنة الثانية إلا أن غضب أسرتى بعد علمهم حقيقة تقديرى جعلنى أقرر البعد عن أى رفيق سوء وألا أخذل أهلى ثانية، فحصلت فى العام الثانى على تقدير جيد جدا، وتعلمت أهمية اختيار الأصدقاء، ولكن مشكلتى الآن هو عدم حبى للسكن فى المدينة الجامعية وعدم القدرة على التأقلم حتى الآن". أما شهدى عهدى الذى جاء من سوهاج ليلتحق بكلية التجارة بجامعة القاهرة، فيرى أن ثقافته وممارسته للرياضة وتربيته المرنة ساعدته كثيرا فى التعامل مع كل المشكلات التى تواجه الشباب فى الغربة؛ لكنه رغم ذلك يقول: "رغم تأقلمى مع حياة الغربة إلا أننى لاحظت كثيرا من الأصدقاء لا يستطيعون تحمل عناء الغربة؛ مما دفعهم لتحويل أوراقهم إلى الكليات المناظرة فى محافظاتهم". وأوضح أن الطالب القادم من الصعيد أو الأرياف يستاء من تعليقات بعض الزملاء على أسلوب حديثه مثلاً، ويضيف: "رغم قسوة أيام الغربة إلا أننى استفدت كثيرا من خلال وجودى فى المدينة الجامعية؛ حيث تعرفت على أصدقاء كثيرين من مختلف المحافظات". ويتفق معه رمضان محمود من المنصورة الذى يدرس بالفرقة الرابعة بكلية الآداب، فخلال وجوده مع أصدقائه فى مسكن واحد لاحظ معاناة الكثير من الطلاب المغتربين من الأرياف والصعيد من التمييز من جانب أقرانهم فى الجامعة؛ مما يؤثر على ثقتهم بأنفسهم، ولكنه يرى أن التركيز على المميزات والمهارات التى يتميزون بها هو الحل. أما عن معاناته الشخصية فتبدأ فى اعتماده الكامل على نفسه بداية من تجهيز الطعام إلى غسيل الملابس؛ مما يجعله مرهقا ومشغولا طوال الوقت، هذا بجانب معاناته من الوحدة، ويضيف قائلاً: "رغم أن الغربة تمثل عبئا إضافيا على، إلا أن حصولى على دورات فى التنمية البشرية أفادتنى فى التكيف معها؛ حيث اكتسبت كثيرا من المهارات مثل الاعتماد على النفس وتنظيم الوقت". "الديليفرى" تختلف طبيعة الغربة بين طلاب الجامعة والمغتربين من أجل العمل هذا ما يوضحه حمزة خريج كلية اللغات والترجمة -23 سنة، مترجم- قائلاً: "فى أثناء الدراسة كانت المعاناة فى الغربة تقتصر على السنة الأولى من الدراسة؛ حيث يعيش الطالب حياة مختلفة نتيجة بعده عن الأسرة، فينتقل من حياة الرفاهية إلى حياة الاعتماد على النفس دون أن يلقى أى عناية من أحد، أما بعد التخرج يكون قد تعود على الغربة، إلا أن مشاكل السكن الخاص هى التى تزعجه، فمشاكله أكثر من مشاكل المدينة الجامعية؛ حيث تختلف طباع وسلوكيات الشباب داخل المسكن الواحد، فضلاً عن ازدحام الأعداد داخله". ويقول (ح.م) -صحفى، 27 سنة- يعيش بعيدا عن أسرته منذ أكثر من خمس سنوات: "الغربة تخلق مشاكل نفسية حيث أفتقد الجو الأسرى والحب والدفء الذى أكون فى أشد الحاجة إليه، خاصة فى حالة التعرض للمرض المفاجئ، ورغم اتصالى شبه اليومى بأسرتى فى الشرقية، إلا أن ذلك لم يعوض وجودهم؛ حيث تقتصر زيارتى لهم كل شهرين تقريبا بسبب ضغوط العمل. ويضيف: "أضطر للعمل طوال الوقت لتغطية تكاليف الغربة، فأنا أسكن فى شقة بمفردى نتيجة عدم تأقلمى وانزعاجى من السكن الجماعى، فضلا عن الأعباء المادية الأخرى نتيجة الاعتماد على الأكل الجاهز "الديليفرى" هذا بجانب الإحساس بالوحدة وصعوبة التواصل مع الناس حيث تسود المجتمع ثقافة الحذر من التعامل مع الشاب المغترب. وتابع: "تأثرت كثيرا بمسألة الاغتراب وظهر ذلك فى تأجيل موضوع الارتباط فما زلت حائرا بشأن اختيار شريكة الحياة هل اختارها من محافظتى حيث الشقة الجاهزة فى بيت العائلة وأثر ذلك فى توطيد علاقتى بأسرتى أم أختارها من المحافظة التى أعمل بها لتخفف عنى عناء الغربة"، وأشار إلى أنه رغم المعاناة إلا أن توافر فرص عمل يخفف من وطأتها. يتفق معه (ب.ب) – 27 سنة- حيث يرى أن الغربة تمثل عبئا ثقيلاً فلا وقت للراحة مما يسبب إرهاقا شديدا، والشاب ينسى معنى مواعيد الوجبات ويستبدلها بالأكل فقط حين الشعور بالحاجة إلى الطعام، هذا بالإضافة إلى استغلال السماسرة للشباب المغتربين وابتزازهم خاصة فى مسألة السكن. سنة أولى غربة ولأنه أقرب إلى الطلاب فى الغربة بحكم عمله فيقول عز الدين سعودى -مدير عام المدينة الجامعية بجامعة القاهرة–: إن "طلاب الكليات النظرية والمستجدين هم الأكثر تأثراً بالغربة، وأصعب طالب هو طالب السنة الأولى ولاسيما القادم من الريف حيث يواجه فى الغربة الانتقال إلى المجتمع الأكبر، فيعانى من مشاكل نفسية وسلوكية بسبب بعده عن البيئة التى تربى بها والأهل والأصدقاء فيشعر بالوحدة مما يجعله فى حاجة إلى قدر من الرعاية". وعن التأثيرات السلوكية والنفسية للطلاب يشير مدير المدينة الجامعية إلى ظهور السلوك العدوانى والانطوائى، لكنهم يبدءون فى الاندماج الإيجابى تدريجيا والذى يختلف مداه وفقا لشخصية الطالب، وهو ما يحدث للغالبية منهم وفى حالة عدم الاندماج ينضم الطالب لأصدقاء السوء، موضحا أن الطالب الذى لديه طموح وهدف محدد وتربية سليمة قوامها الدين لا يتأثر كثيرا بسلبيات الغربة. الأخصائى الاجتماعى من جانبها، توضح الدكتورة سوسن فايد -مستشارة علم النفس بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية- العوامل المؤثرة على وجود اختلافات بين الشباب فى شعورهم بالغربة قائلة: إن "مستوى ثقافة الشاب وتعليمه من العوامل التى تعينه على التكيف مع الحياة واستيعابه للمناخ الجديد، فضلاً عن اختلاف الهجرة من الريف إلى الحضر أو العكس فكلما كان هناك تقارب بين الموطن الأصلى والمحافظة التى ينتقل إليها قل لدى الشاب المغترب الشعور بالنفور الاجتماعى”. وتشير إلى أن أهم المشكلات النفسية والاجتماعية التى يتعرض لها الشاب تصيبه فى المرحلة الأولى، فيصاب بالتخبط والتشتت نتيجة لافتقاد العلاقات الاجتماعية، بالإضافة إلى حالة الصراع الداخلى بسبب الخوف من الوحشة الاجتماعية وعدم تحقيق الهدف الذى جاء من أجله للغربة. وتضيف قائلة: إن "البحث عن أسباب الشعور بالغربة والمعوقات ومحاولة تذليلها من أهم وسائل التكيف معها، كذلك الاهتمام بانتقاء الأصدقاء ليكونوا بديلا للأسرة وشبكة جديدة من العلاقات الاجتماعية، لكن إذا امتدت الغربة لفترة طويلة فيكون من الأفضل للشاب الارتباط لبناء أسرة بديلة، بالإضافة إلى أهمية الحرص على الاندماج فى العمل والإصرار على النجاح فيه لأن الإحساس بالنجاح يطغى على الشعور بالاغتراب، بالإضافة إلى أهمية اهتمام بيوت المغتربين والمدن الجامعية بتفعيل دور الأخصائى الاجتماعى وهذا متعارف عليه فى الدول المتقدمة حيث إن اللجوء إلى الأخصائى الاجتماعى يساعد الشباب المغترب فى التعامل مع مشاكله".