أوائل عام 2010 تقدَّم مخرج شاب مغمور مسيحى يدعى "أمير رمسيس" بسيناريو فيلم يروى حياة يهود مصر للإدارة العامة للرقابة على المصنفات الفنية، ولحساسية الفيلم لم ير النور إلا بعد ثورة 25 يناير، فعرض فى الدورة الخامسة لبانوراما الفيلم الأوروبى بالقاهرة فى أكتوبر 2012 بعدما حصل على موافقة الرقابة رغم رفض الأمن الوطنى (أمن الدولة سابقا). ولأن مواقف المخرج "رمسيس" السياسية لا تخلو من عداء واضح للتيار الإسلامى، خاصة الإخوان المسلمين، حتى إنه وصف الرئيس محمد مرسى فى تدوينة على تويتر هذا الأسبوع بأنه (قاتل يحتل كرسيًا وله مريدون أيضًا)!!، فمن الطبيعى ألا ترد سيرة الإخوان فى فيلمه الوثائقى المشوه المعروض حاليا فى السينما، إلا بشكل سلبى، مستعينا بشهادات مسئولى حزب التجمع اليسارى(!)، فحرص على إظهارهم بصورة عنيفه فى صورة اتهام الشهيد البنا بأنه أمر الإخوان عام 1947 بالهجوم على حارة اليهود وقتل من فيها، والاستعانة بشخصية مجهولة تنتمى للإخوان لتلخص الموقف من اليهود بأنهم "ليس لهم أمان". وأظهر ممثل الإخوان فى فيلمه كشخص متعصب، بلحية، يرتدى جلبابا أبيض، غير مهندم، ويتحدث بعصبية وتشدد واضحين ودون منطق أو سياق واضح ضد اليهود، ليبرر ما سعى الفيلم لإثباته من صورة ذهنية سلبية عن الإخوان، ولكنه لم يستطع أن يمنع أحد اليهود الشيوعيين (أسلم ليتزوج مسلمة) من أن يشيد بإنسانية الإخوان بعدما تعرف على الأستاذ مهدى عاكف الذى كان يشاركه إعداد الطعام للمساجين فى عهد عبد الناصر. فيلم (عن يهود مصر) –لاحظ أن اسم الفيلم يوحى أنه يحمل رؤية أحادية- لم يكتف بهذا، ولكنه أظهر يهود مصر –من خلال اللقاءت مع بعض من تبقى منهم فى مصر أو يعيش فى فرنسا– على أنهم وطنيون متحضرون يكرهون الصهيونية، بل ناضلوا ضدها؛ بدليل إقامة الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية فى الأربعينيات(!)، وأن المصريين اضطهدوهم وسلبوا منهم الجنسية المصرية وطردوهم خارج مصر بالقوة من مساكنهم واستولوا على أملاكهم (برغم اعتراف بعضهم بلسانه أنه غادر طوعا بل باع منزله)! ومن خلال مشاهدتى للفيلم أستطيع القول: إن هدفه هو إظهار أن مصر تتطرف بعد الثورة فى ظل حكم الإخوان ضد خصومهم، مثلما تطرفت بعد ثورة يوليو 52 ضد اليهود.. فقد كانت يوما ما قبل ثورة 1952 نموذجًا للتسامح وقبول الآخر، ولكنها تغيرت وأصبح الفرز دينيا وسياسيا، وهو إسقاط على ما بعد ثورة 25 يناير أيضا مع تصاعد نفوذ الإسلاميين؛ حيث الفرز هنا بناء على الهوية الدينية، وخلط السياسة بالأديان، فأصبح جزءا من المجتمع يرفض الآخر ويلفظه؟!. ولكن المخرج لا يقول لنا: إن ما حدث بعد ثورة 1952 حدث كرد فعل طبيعى من المصريين المسلمين والمسيحيين على دعم يهود مصر لإسرائيل حتى ولو ظل القليل من هؤلاء اليهود يكره الصهيونية وإسرائيل، ولا يقول لنا أيضا: إن ما حدث من مشكلات بعد ثورة 25 يناير هو نتاج لسعى المعارضة الليبرالية واليسارية إقصاء الإسلاميين -الذين اختارهم الشعب فى الانتخابات- بالعنف والمولوتوف!. هدف الفيلم أيضا "تلقينى"، لأن صانع الفيلم التسجيلى لا يقف دوره عند حدود تقديم بعض المعلومات والأمور المجهولة بالنسبة للمتلقى، ولكنه يحاول أن يخلق تعاطفا ذهنيا ونفسيا مع اليهود لدى المشاهدين، وخلق عقدة الذنب لديهم بأنهم اضطهدوا اليهود وأخرجوهم من مصر، ومن ثم يجب عودتهم أو تعويضهم!! هدف الفيلم هو التطبيع الثقافى.. السينمائى، بقبول الآخر -المختلف دينيا وسياسيا– عبر إظهار جانب واحد من يهود مصر، هو رءوس أموالهم فى مصر ومشاركتهم فى الحركة الوطنية ورفضهم للصهيونية، وحنين من خرجوا للعودة لمصر بعدما رفضوا المغادرة إلا بالموت!. الهدف هو «التطبيع» أو دعوة للسلام العالمى بدعاوى أن المجتمع تفشّت فيه العنصرية والتطرف والعبوس فى وجه الآخر من غير أهل الملة. بالتأكيد هناك فارق بين اليهودية كدين والصهيونية كمنهج سياسى، ولكن لا يمكننا أن ننسى أن هؤلاء اليهود –كما يعترف الفيلم– خرجوا فى مظاهرات مؤيدة لقيام الدولة الصهيونية عام 1948 فى شوارع مصر، رغم كل ما يقال عن رفضهم للصهيونية والسلطات المصرية حتى عام 1948 كانت تتهاون معهم وتحميهم، حتى إن النادى الصهيونى فى مصر الجديدة حنينئذ كانت تحرسه قوات أمن مصرية(!). ولهذا ففيلم أمير رمسيس الذى يحاول إظهارهم فى صورة المناهضين لدولة إسرائيل، يؤكد وجود إشكالية حقيقة فى رواية تاريخ مصر وكيف نتعامل ليس فقط مع تاريخ اليهود المصريين ولكن مع كل تاريخ مصر دون تزوير، ومن لهم حق كتابة هذا التاريخ؟! أما الغريب فهو أنه رغم الضجة الكبيرة التى سعى مخرج ومنتج الفيلم لإثارتها إعلاميا حول فيلمه، بزعم أن الإخوان يعارضونه، وأن الأمن الوطنى (أمن الدولة) اعترض، وأنه نجح فى عرض الفيلم رغم أنف وزير الإعلام الإخوانى، إلا أنهم لم يقولوا لنا ما الذى يعنيه عرض فيلم كهذا يدين الإخوان فى ظل حكم الإخوان؟ ولم يعترفوا بفضل عرض الفيلم فى ظل حكم الرئيس الإخوانى، رغم أنهم تقدموا بالفكرة فى عهد النظام السابق (2010) وظلت مجمدة حتى عرض فى عهد الإخوان الذين حرص الفيلم على تشويه صورتهم.. باختصار لم يقولوا لنا: أليس هذا تسامحا وديمقراطية من الإسلاميين؟!