إن مبادئ الإدارة والقيادة عامة وواحدة، فمن امتلك زمامها على مستوى أسرة صغيرة، لا شك أنه سوف يكون أجدر على ممارستها بشكل فعال ولو على مستوى دولة كبيرة. فإذا كنا نعرّف القيادة بأنها فن التأثير فى الآخرين لتحقيق الأهداف، وأنها تستمد سلطتها من قبول الآخرين لها واقتناعهم بها، وحبهم لصاحب الشخصية القيادية المؤثرة، وهذا هو ما يفرق الرئيس أو المدير عن القائد، فالمدير إنما يستمد فى الغالب سلطته من واقع وظيفته وليس من مجرد شخصيته القيادية، ولذلك فإننا نؤكد تعليم الناس الإدارة، على أن كل مدير يجب أن يكون قائدا، وأن القيادة الحقيقية هى التى تنطلق فى نجاحها لتحقيق أعلى درجات الإنجاز من خلال قبول الآخرين لها، وهو ما أصبح يعرف الآن بالإدارة بالحب، حتى فى بلاد الغرب. وإذا تتبعنا سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى إدارته عموما، وفى بيته على وجه الخصوص؛ فإننا سوف نجد أن العنوان الأبرز لنمط قيادته هو الإدارة الإنسانية القائمة على أعلى درجات الحب والاستيعاب، والعدل والتواضع، والسهولة مع الآخرين. ولعل البعض يتعجب.. وما علاقة الإدارة والقيادة بالبيت والحياة الأسرية...؟! وهو ما حاولت توضيحه فى بداية المقال، حيث تمارس وظائف الإدارة كافة، وتظهر أنماط القيادة واضحة فى مؤسسة الأسرة بوصفها منظمة أولية، بل هى النواة الأولى لأية منظمة، فمنها تتكون القبيلة، فالدولة، فالأمة، فالعالم أجمع. فإذا نظرنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسوف نجد ابتداء أنه كان نِعم الزوج، سواء فى فترة ما قبل الإسلام أو بعدها، بل إن علاقته مع زوجته خديجة -رضى الله عنها- ثم نسائه من بعدها –رضى الله عنهن جميعا- كان نموذجا لأعلى درجات التعامل الإنسانى الراقى، بل كانت نموذجا لأعظم قصص الحب التى قَلما نسمع مثلها فى حياة زوجية شرعية. وليس أعظم من حب الرجل لزوجته، إلا أن يعبر لها عن ذلك بوسائل التعبير كافة، وألا يخجل من إعلان هذا الحب والتقدير لها فى أى وقت وأمام أى أحد، وأن تشعر هى بذلك وتدركه جيدا، بل تفصح عن حبها بالمقابل، واعترافها بشمائل الزوج وفضله. إن كثيرا من الأزواج حتى مَن يدعى الانتماء للإسلام لا يعيش مثل هذه الثقافة والأخلاق الراقية فى تعامله مع أهله، ولذلك نبه الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك حينما وضع معيارا عمليا للخيرية بقوله: "خَيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيركم لأهلى"، وفى رواية: "خيركم خيرُكم لنسائهم، وأنا خيركم لنسائى". إن ما نراه من ممارسات شاذة وغريبة بين كثير من الأزواج وزوجاتهم فى بلادنا؛ تعد ممارسات جاهلية تَمُت للعادات الموروثة والطباع السائدة الفاسدة، ولا تمت بصلة لتعاليم الإسلام وميراثه. ويكفينا للتدليل على ذلك بعض الأمثلة القليلة التى تعبر عن مواقف كثيرة وأصيلة فى قيادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعامله الراقى لأهل بيته، فالسيدة خديجة-رضى الله عنها- قبل الإسلام عبّرت عن تقديرها وحبها وحرصها عليه -صلى الله عليه وسلم- ليس فقط باختياره زوجا لها بعدما رأته من نُبله العالى، وكرم شخصيته، ودماثة أخلاقه، وأصله، بل استمر ذلك بعد دوام الحياة الزوجية، ولم يفتر بل تأصل وازداد. فبعد أول تجربة لنزول جبريل –عليه السلام- عليه بالوحى، وشدة خوفه، ولجوئه إليها ومصارحته لها، ثم تفاعلها ومشاركتها الوجدانية الرائعة بأن طمأنته بشهادتها العظيمة "إن الله لن يخزيك أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَل، وتقرى الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق"، ثم تأخذه لابن عمها ورقة بن نوفل، ثم تكون أول من يؤمن به ويصدق برسالته دون تردد، بل تدعمه بكل ما تملك من مال وجاه. وكان -صلى الله عليه وسلم- يكِن لها حبا لا يتردد لحظة فى الإفصاح عنه، سواء فى حياتها أو بعد مماتها، فيقول: "إنى قد رُزقتُ حبها". وتروى السيدة عائشة -رضى الله عنها- قائلة: "ما غِرتُ على أحد من نساء النبى -صلى الله عليه وسلم- ما غرت على خديجة -رضى الله عنها- وما رأيتها، ولكن كان النبى -صلى الله عليه وسلم- يكثر ذكرها... فربما قلت له: لم يكن لدينا امرأة إلا خديجة؟! فيقول: إنها كانت وكانت، وكان لى منها الولد". لقد استمر هذا النهج الأصيل مع زوجاته من بعدها، حتى إن عمرو بن العاص -رضى الله عنه- بعد إسلامه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أحب الناس إليك؟، ظنا منه أنه الأحبُّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أصحابه كافة؛ لِمَا يلقاه من معاملة واهتمام كبير، فكانت الإجابة مفاجأة، حيث رد الرسول -صلى الله عليه وسلم- دون أى تردد قائلا: "عائشة، فقال عمرو: إنما أعنى من الرجال؟، فقال: أبوها". قلما تجد فى عالم اليوم مشاعر طيبة تظل متداولة بين الرجل وزوجته، وإن وُجدت فيغلب عليها التكتم وكأنها عورة، فإن كان بينهما تواد وتفاهم وإعلان فإن ذلك لا يكاد يخرج من دائرة العلاقة الثنائية الخاصة جدا بينهما. لا يكاد أحد يتخيل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يحب زوجاته ويعلن ذلك لهم، ويعلنه دون تردد لأصحابه، وكان يتواضع لهم، ويكون فى مهنة أهله، بل كان يجد من الوقت ما يذهب عنهم ضغوط الحياة، فيداعبهم، ويوفر لهم فرص ممارسة ما يحبون من أنشطة بما فيها الرياضة. روى أنه -صلى الله عليه وسلم- سابق السيدة عائشة –رضى الله عنها- فسبقها، وكانت قد سبقته فى بداية زواجهما، فقال لها مداعبا: "هذه بتلك". فهل نجد الآن زوجا عصريا يصل فى تعامله مع زوجته إلى هذه الدرجة؟ بل أكثر من ذلك، حينما تريد السيدة عائشة -رضى الله عنها- مشاهدة أهل الحبشة يحتطبون فى المسجد، لم يتردد الرسول -صلى الله عليه وسلم- رغم مشاغله عن السماح لها بذلك، بل حملها حتى تكتفى. ليس هذا فحسب، بل إنه -صلى الله عليه وسلم- كان يرجع لأهله بالمشورة حتى فى أشد القرارات حسما وحرجا، كما فعل يوم الحديبية حينما أمر أصحابه –رضوان الله عليهم أجمعين- بالنحر والحلق، فلم يستجيبوا، فذهب للسيدة أم سلمة -رضى الله عنها- التى أشارت عليه بأن يخرج وينحر ويحلق أمامهم، ففعل، فتبِعه بالفعل الصحابة الكرام جميعهم. ومما يندر حدوثه فى سير العظماء، الكلام عما يحدث بينهم وبين أزواجهم من تفاصيل وخلافات شخصية عائلية. لكن هناك قرآن لا يزال وسيظل يتلى عن أخص خصائص بيت النبوة، مثل ما ورد فى سورتى التحريم والطلاق، حتى جعلت بعض مَن حاول انتقاد القرآن الكريم بوصفه كتابا بشريا –كذبا وزورا- من صنع "محمد"!! يقف عند مثل تلك الآيات: "يَا أَيُّهَا النَّبِى لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{1} قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ{2} وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِى إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِى الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ{3} {التحريم: 1 - 3}. حيث تعجب جدا، قائلا: "كيف يكون محمد هو الذى كتب هذا القرآن ثم ينتقد فيه نفسه بهذا الشكل". لا شك أنه بالفعل كتاب من وحى الله وليس كتاب بشر. والخلاصة.. إن أى قائد لا يمكن أن يفشل فى إدارة بيته، ثم يكون ناجحا فى إدارة أو قيادة أى شىء آخر بالمفهوم المتكامل للإدارة والقيادة. ولعل هناك رواية عن الخليفة عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- حينما كان يريد تولية أحد يسأله عن علاقته بزوجاته، فإن كان فاشلا لم يوله، وإن كان ناجحا فى تعامله معهن عد ذلك مؤشرا عمليا مهما لأهليته وصلاحيته للمنصب. كما أود فى نهاية هذا المقال أن أؤكد على دروس عدة مستفادة، سواء للأزواج أو القادة والمديرين، فى كيفية تعاملهم مع أزواجهم أو مرءوسيهم من منطلق الحب، والحرص، والتواضع، ولين الجانب، والعدل، والرحمة، والرأفة، وأن يكون فى كل ذلك واضحا وثابتا، وخلاصة الخلاصة أن يُشعر الآخرين بالتقدير، وتفهم احتياجاتهم الطبيعية كافة، والعمل على تلبيتها دون مشقة أو عَنَت.