"إن دلال أقامت الجمهورية الفلسطينية ورفعت العلم الفلسطينى، ليس المهم كم عمر هذه الجمهورية، المهم هو أن العلم الفلسطينى ارتفع فى عمق الأرض المحتلة على طريق طوله خمسة وتسعون كيلو متر فى الخط الرئيسى فى فلسطين" كلمات كتبها الشاعر الراحل نزار قبانى فى مارس عام 1978 فى الذكرى السنوية للعملية الفدائية التى شاركت فى تنفيذها دلال المغربى واستشهدت فيها ولا يزال جثمانها مفقودا حتى اليوم رغم مرور أكثر من 30 عامًا على استشهادها، ومن هنا جاءت تسمية الفيلم الوثائقى الذى أنتجته قناة الجزيرة وثائقية عن الشهيدة بعنوان "جمهورية دلال". فمع بداية شهر مارس على جنوب حيفا عام 1978 أعاد الفيلم تمثيل مشاهد العملية الفدائية الحقيقية، والتى أطلقت فيها دلال وصيتها قبل أن تنطلق لتنفيذ العملية فقالت: "وصيتى لكم جميعا أيها الإخوة من حملة البنادق تبدأ بتفادى التناقضات الثانوية بيننا وتصعيد تناقضنا الرئيسى ضد العدو الصهيونى وتوجيه البنادق كلها نحوه واستقلالية القرار الفلسطينى، لكل الفصائل أقولها استمروا بنفس الطريق الذى سلكناه "المقاومة"، حتى تحرير كامل التراب الفلسطينى. بعدها استعرضت الكاميرا سريعا مانشيتات الصحف التى تناولت العملية الفدائية بعد تنفيذها بساعات "الأرقام الإسرائيلية تتحدث عن 26 قتيلا و70 جريحا، المقاومة تخوض أوسع المعارك بين حيفا وتل أبيب، إسرائيل تفرض حظر تجول على امتداد 40 كلم وتهدد بالانتقام". العقل المدبر بحثت إسرائيل كثيرا عن العقل المدبر للعملية وهو الشهيد خليل الوزير "أبوجهاد" الرجل الثانى فى منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، والذى بدأ تخطيطه للعملية عام 1977 بعد التصريح الشهير لمستشار الأمن الأمريكى والذى قال فيه: "وداعا منظمة التحرير"، اختار أبو جهاد أن يسمى العملية باسم الشهيد كمال عدوان الذى اغتاله الموساد عام 1973 فى بيروت بعد أن وصلت فرقة الموساد بيروت ليلا قادمة من البحر وتخفى عناصرها فى ملابس نسائية وكان من بينهم "إيهود باراك وبن ياهو" واقتحموا غرفة نومه وقاموا بتصفيته. أبو جهاد -اغتاله الموساد أيضا- حاكى فى تخطيطه للعملية الفدائية أسلوب الموساد فأرسل إلى تل أبيب مجموعة أطلق عليها "فرقة دير ياسين" تتكون من 12 فدائيا وفدائية واحدة هى دلال المغربى، لتكون أول امرأة تهاجم إسرائيل من الخارج، وعرض الفيلم صور نادرة جدا بالأبيض والأسود لمجموعة الفدائيين فى أثناء تخطيطهم للعملية على نغمات النشيد الوطنى الفلسطينى. الأب الاستثنائى! ومن أبرز ضيوف الفيلم العميد كايد يوسف أحد كوادر القطاع الغربى والذى قال: فى العام نفسه الذى نفذت فيه العملية كان السادات وقع اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل بعد وصول بيجن وحزبه للحكم فطرحوا فكرة الحكم الذاتى للقضاء على القضية الفلسطينية وضرب المقاومة. تلتقط أطراف الحديث منه رشيدة المغربى شقيقة دلال والتى قالت: زارتنى دلال فى بيروت بداية شهر مارس عام 1978 وأبلغتنى أنها قد تكون زيارتها الأخيرة، وأضافت والدتها أمينة المغربى: أتت تحمل صورة لها وأهدتنى إياها فعلقتها فى مدخل منزلى وقلبى مقبوض وحينما غادرت المنزل آخر مرة كنت أبكى بحرقة بلا سبب وشاهدتها من النافذة وهى تبتعد خطوة بخطوة وتلوح لى بين دقيقة وأخرى ولكنها لم تتمكن من وداع والدها الذى لم يكن موجودا فى المنزل رغم العلاقة الخاصة جدا التى ربطته بها لدرجة أنه علم بعملها فى المقاومة الفلسطينية مع "أبو جهاد" ولم يعترض فكتبت دلال إليه: "أبى... ما أصعب الكتابة عنك وإليك، وهبتنى العطاء والتضحية والإخلاص للأرض، أما أمى فلن أكتب عنها شيئا لأننى إذا فعلت فمعنوياتى ستتحطم، حضرت إلى البيت لأراك ولكن كان حظى "زفت" فلم أودعك أو أراك ولكن مهما غبت تأكد أننى موجودة معك وأعيش معكم، لا تذرف دمعا كثيرا فقد صرت بنتا للبلاد وكان عمرها لا يتجاوز العشرين عاما، ونجح المخرج فى الحصول على الخطاب الذى كتبته دلال بخط يدها . الانطلاق يروى خالد أبو إصبع -أحد الناجين من مجموعة دير ياسين- تفاصيل العملية قائلا: "قبل انطلاقنا لتل أبيب بساعات قليلة كانت دلال تعانى من آلام حادة فى الأسنان -عرض صور التقطوها لها وهى تقاوم الألم الشديد لإتمام العملية- لدرجة أن مسئولى العملية فكروا فى استبعادها إلا أن حماسها وإصرارها دفعاهم للدفع بها، يضيف على روايته زميله فى العملية حسين فياض الذى قال: أتت السيارات ليلا وانطلقت بنا إلى أن صعدنا إلى باخرة بشكل سرى وكان مدبر العملية أبو جهاد تمكن من تمويه حرس الباخرة الإسرائيليين وكانت الخطة تقوم على أنه بعد تحرك الباخرة بضعة كيلو مترات نستقل قوارب مطاطية ونتجه لتل أبيب لاقتحام فندق على الساحل ونادٍ للضباط الإسرائيليين وأخذ من فيهم رهائن لمبادلتهم بأسرى فلسطينيين وعرب، وكان الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات على علم بتفاصيل العملية وينتظر نتائجها رغم قيامه بزيارة لموسكو فى التوقيت نفسه رغبة منه فى إجبار روسيا على تسليحه . وفى تمام الثامنة مساء تمت عملية الإنزال وانقسم الفدائيون فى قاربين متجهين لتل أبيب والكل فى حالة ترقب شديد يضم يده على قبضة سلاحه ومع بزوغ الشمس خفت الرياح وهدأت الأمواج لكنهم لم يجدوا القبطان فى انتظارهم كما كان متفقا عليه فأخذوا يبحثون عن اليابسة بعدما تسلل اليأس إلى نفوسهم خاصة بعدما نفد البنزين من الزوارق فاستخدموا المجاديف لدفعها ومن شدة اليأس أطلقوا طلقات تحذيرية فى الهواء حتى تأتى إليهم قوات إسرائيلية ولكن لم ينتبه أحد لطلقاتهم. أول شهيدين سار الفدائيون بلا وجهة تائهين فى البحر إلى أن ارتفعت الأمواج وقادتهم بسرعة شديدة وحينما هدأت وجدوا أنفسهم على بعد مئات الأمتار من الشاطئ ولكن الأمواج تواصل ارتفاعها فينقلب الزورق ويستشهد اثنان من الفدائيين: الأول كان الوحيد فى المجموعة الذى يتحدث العبرية، والثانى كان مسئول الاستطلاع بينما ذهب فدائى ثالث فى حالة إغماء وأنقذه زملاؤه بأعجوبة بعدما تمسكوا بالزورق للنجاة، وبعد يومين وليلة من التيه فى بحر هائج وطئت أقدام الفدائيين اليابسة لتبكى دلال الشهيدين بينما انهارت قوى الباقيين وفى مشهد بالغ الأسى صور المخرج فى لقطات تمثيلية الكوفية الفلسطينية وهى تتأرجح على أمواج البحر وكأنها تنعى الشهيدين . بعد دقائق لاحظ أحد الفدائيين ساترا ترابيا من خلفه آثار آلية عسكرية فذهبت دلال لاستطلاع الأمر ثم صرخت تبشر زملائها بأن الأمواج قذفتهم على أرض فلسطين، ويستكمل الناجيان الوحيدان رواية عمليتهما الفدائية قائلين: تقدمنا إلى أن وجدنا إسرائيلية تستقل سيارة فاختبأنا وتركنا دلال تحدثها وكأنها أمريكية جاءت للسياحة وعرفنا من الفتاة أننا فى منطقة عسكرية وتبعد عن تل أبيب 90 كلم . اختار الفدائيون مجموعة منهم كى يرتدوا ملابس عسكرية حصلوا عليها من المعسكر خلسة لتأمين مرور باقى المجموعة وإيقاف حافلة تقل الجميع، وفجأة أشار أحد الفدائيين لحافلة تأتى من على بعد وحينما اقتربت فوجئوا بأنها تقل عسكريين إسرائيليين بأسلحتهم فأطلق الفدائيون النار عليهم وتمكنوا من القضاء عليهم ليعلنوا عن سيطرتهم على أول حافلة فى المنطقة وانطلقوا إلى تل أبيب مطلقين النار على كل السيارات التى يصادفونها فى طريقهم وأوقفوا حافلة أخرى ضموا ركابها إلى حافلتهم فأصبح لديهم 90 إسرائيليا، وكانت مهمة دلال هى تأمين الجبهة الأمامية للحافلة ومد الفدائيين من الخلف بالقذائف فضلا عن توجيه قائد الحافلة، إلى أن صرخ أحد زملائها مخاطبا إياها بالتوجه إلى المطار فورا لاستغلال الوقت ولكنها رفضت بكل إصرار قائلة: "لازم ندخل تل أبيب ". علم فلسطين أحضرت دلال علم بلادها ورفعته على مقدمة الحافلة وأدت أمامه التحية العسكرية، استخدم الجيش الإسرائيلى كافة الطرق لاقتحام الحافلة والقضاء على الفدائيين لكن دون جدوى فكانوا يضربون الحافلة من جانبيها ويسمح لهم الفدائيون بالتقدم لحد معين حتى يتمكنوا منهم فيضربونهم فى مقتل إلى أن أشعل اليهود الحافلة فاضطر الفدائيون للنزول منها وبدأت تصفيتهم من قبل جيش الاحتلال، ويحكى خالد أبو إصبع كيف أصيبت دلال فاسترخت على أرض الحافلة وطلبت منه أن يتسلم كل السلاح الذى بحوزتها والدم يلطخ وجهها قبل استشهادها بلحظات مع كل زملائها الفدائيين ما عدا خالد أبو إصبع وحسن فياض . لم يصدق الإسرائيليون أن من بين المهاجمين فتاة فخلعوا قميصها عنها وأمسك بها إيهود باراك بوحشية والتقطت له صورة شهيرة وكأنه يتشفى فى جثتها . الأم تروى أم دلال كيف فزعت فور مشاهدة خبر عاجل على الشاشات الإخبارية بهجوم فدائى على تل أبيب وكيف تيقنت أن ابنتها دلال كانت من بين الفدائيين على خلفية صور فوتوغرافية لها مع كل أفراد أسرتها وتسجيل صوتى لوالدها وهو يتحدث عنها وعن عملها الفدائى وعن آخر مرة التقاها فيها، بينما حكى توأمها عن أول مرة شاهدها وهى ترتدى الزى العسكرى. معلومات الفيلم: • نص وتعليق: أمجد المالكى • تصوير: ثائر الياسرى، أنور الخطيب، لبيب جزماوى، مجيد الصفدى • ممثلون: لارا أوب سعيفان فى دور دلال المغربى، مغاوير البحر اللبنانى فى دور الفدائيين • إعداد وإخراج: أمجد المالكى