من سمات الجيل الموعود أنه جيل مجاهد فى سبيل الله، يبذل جهده ووسعه وطاقته من أجل رضا ربه، ينطبق عليه قوله تعالى: ?يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ? [المائدة: 54]. لقد وضحت الرؤية لهذا الجيل، ورُفع له علم الخلافة وأستاذية العالم، فشمَّر للوصول إليه، وجعل حياته وإمكاناته وفقًا لتنفيذ هذا الهدف، ولا ينتظر من ذلك إلا رضا مولاه عنه. جيل لا يبخل بأى جهد يبذله للوصول إلى هدفه، ولِمَ لا وهو يعلم أن إقامة هذا الدين لن تكون إلا بجهد البشر فى البداية ليأتى التأييد الإلهى تبعًا لوجود هذا الجهد، كما قال تعالى: ?إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ? [محمد: 7]. من هنا يعلم أبناء هذا الجيل أن أى جهد يبذلونه -مهما كان ضئيلًا– فإنه يمثل خطوة مهمة فى بناء المشروع الإسلامى، لذلك فهم يصلون الليل بالنهار من أجل الوصول إلى أهدافهم دون الإخلال بواجباتهم تجاه أنفسهم أو أهليهم. لقد وقف هذا الجيل حياته من أجل هدفه، وجعل كل شىء آخر على هامش تفكيره.. أجَّل الكثير من متع نفسه من أجل مشروعه ومشروع الأمة العظيم، يدفعه لذلك الحُرقة الشديدة التى تملأ قلبه على أحوال أمته وما يحدث لها من ذل وهوان لم يسبق له مثيل. تراه دومًا على استعداد تام للتضحية بأى شىء من أجل رضا الله وتحكيم شرعه ورفع رايته. على استعداد لأن يبذل ماله ووقته وجهده وراحته... وعلى استعداد كذلك للتضحية بالمنصب والعقود المغرية التى من شأنها أن تُحسن وضعه المالى. هيأ نفسه وبيته للبذل وتحمل خشونة العيش، وكذلك المضايقات والإيذاءات التى يتوقع أن يتعرض لها. وتتصاعد التضحية لتصل إلى درجة التضحية بالنفس؛ طمعًا فى رضا ربه والفوز بمكانة الشهداء عنده. - مع الصحابة وجهادهم فى سبيل الله: لقد وقف الصحابة حياتهم من أجل الله وجاهدوا فى سبيله، وتحملوا خشونة العيش والجوع والأذى رغبة فيما عنده سبحانه وتعالى. عن أبى موسى رضى الله عنه قال: "لو رأيتنا ونحن مع نبينا صلى الله عليه وسلم، لحسبت أنما ريحنا ريح الضأن، إنما لباسنا الصوف وطعامنا الأسودان التمر والماء". وعن محمد بن سيرين قال: "كان الرجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم يأتى عليه ثلاثة أيام لا يجد شيئًا يأكله فيأخذ الجلدة فيشويها فيأكلها، فإذا لم يجد شيئًا أخذ حجرًا فشد صلبه". - وضوح الهدف: لقد كان أبناء الجيل الأول يعلم بوضوح هدفه فى الدنيا، وأن الله عز وجل قد اختارهم لينشروا دينه، ويقوموا بالشهادة على الناس، ويسعوا لإخراجهم من الظلمات إلى النور، لذلك انتشروا فى الأرض يدعون الخلق إلى الله، ويجاهدون فى سبيله.. لم يركنوا إلى الدنيا، ولم ينقطعوا للعبادة، أو مجاورة الحرم.. لم يقيموا فى مدينة نبيهم صلى الله عليه وسلم، مع ما فى ذلك من فضل عظيم، لأنهم علموا أن الله عز وجل يريد منهم الدعوة والجهاد وتعبيد الأرض له سبحانه. ... تأمل معى ربعى بن عامر رضى الله عنه وهو أحد عامة جيش المسلمين الذين ذهبوا لفتح بلاد فارس وهو يخاطب رستم قائد الفرس، فحين سأله رستم: "ما جاء بكم؟" قال: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه حتى نفضى إلى موعود الله"، قال: وما موعود الله؟ قال: "الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى".. - وضوح الغاية: أما غايتهم -رضوان الله عليهم- فقد كانت واضحة أمامهم تمام الوضوح، وتمثل فى رضا الله وبلوغ جنته.. لقد اقتربت الجنة أمام أعينهم، فازداد شوقهم إليها، ومن ثَّم العمل على دخولها.. تأمل معى ما حدث لحرام بن ملحان رضى الله عنه، وهو أحد القراء الذين استشهدوا فى بئر معونة... لقد ذهب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلم ينظر فيه، وأمر رجلًا فطعنه بالحربة من خلفه، فلما أنفذها فيه ورأى الدم قال حِرَام: "الله أكبر، فزت ورب الكعبة". وفى بدر، وقف صلى الله عليه وسلم يُحرض أصحابه على القتال فقال لهم: ((والذى نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة))، وقال وهو يحضهم على القتال: ((قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض))، وحينئذ قال عمير بن الحمام: "بخ بخ"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يحملك على قول بخ بخ؟))، قال: "لا والله يا رسول الله، إلا رجاء أن أكون من أهلها"، قال: ((فإنك من أهلها))، فأخرج ثمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: "لئن أنا حييت حتى آكل تمراتى هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل". وكذلك سأله عوف بن الحارث بن العفراء، فقال: "يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟"، قال: ((غمسه يده فى العدو حاسرًا))، فنزع درعًا كان عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل. وهذا جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه يعقر فرسه فى مؤتة ويقاتل الروم حتى يُقتل وهو يقول: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردة شرابها والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها علىَّ إن لاقيتها ضرابها