فى ذكرى استشهاد الإمام البنا يطيب لنا أن نتذاكر بعضا من حياته ومماته لتكون لنا عبرة على الطريق ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الألْبَابِ))، هى وقفات سريعة تبين لنا كيف اختار البنا حياته وكيف اختار مماته؟ ومدى نجاحه فى صناعة الاثنين معا "الحياة والممات"، فى رسالة واضحة لكل أبناء الدعوة والسائرين على الدرب والمقتدين بالحبيب المصطفى أن هذا هو سبيل أصحاب الدعوات. لقد اختار البنا -رحمه الله- أن يسير على خطى الحبيب صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام بأن جعل حياته وقفا لله تعالى وسيرا على منهجه وشريعته وتبليغا لدعوته وإعادة لخلافته فى الأرض، وتجديدا لدينه فى نفوس الناس ونهضةً بأمته من حياة التبعية للشرق أو الغرب إلى الاستقامة على الدين لتحقيق أستاذية العالم، فحمل على كاهله مسئولية إحياء الأمة من مواتها وهدايتها من ضلالها، ونشأ الإمامُ وبداخله هذه الفكرة، وسيطرت عليه ونمت وكبرت بداخله، كتبها فى موضوع الإنشاء عند تخرجه فقال: "وأعتقد أن خير النفوس تلك النفوس الطيبة التى ترى سعادتها فى سعادة الناس وإرشادهم، وتعد التضحية فى سبيل الإصلاح العام ربحًا وغنيمة" وكررها وهو يتحدث عن أمنيته "أن أكون مرشدًا معلمًا إذا قضيتُ فى تعليم الأبناءِ سحابةَ النهار ومعظم العامِ قضيتُ ليلى فى تعليم الآباءِ هدفَ دينهم". هكذا اختار ومنذ نعومة أظفاره أن يكون شغوفا بدعوته حريصا عليها ساعيا لنشرها بين الناس، ففى طفولته اشتغل بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والدعوة إلى الله، فأنشأ مع زملائه بالمدرسة بالبحيرة (جمعية الأخلاق الدينية)، وبعدها (جمعية منع المحرمات) و(دعاة الصباح) و(الإخوان الحصافية)، وفى القاهرة فى أثناء دراسته الجامعية اعتمد أسلوب الدعوة عبر المقاهى، وكذلك فى الإسماعيلية بعد تخرجه، حتى أسس جماعة الإخوان المسلمين وانطلق يجوب مصر فخاطب أمته قائلا: "إلى الأمة الحيرى على مفترق الطريق، إلى كل مسلم يؤمن بالسيادة فى الدنيا والسعادة فى دار القرار، أقدم رسالةَ الماضى القوى الملتهبْ إلى الحاضر الفتى المضطرب، وعده الحاضر الثائر للمستقبل الزاهر"، ولا زال صدى دعوته يدوى "أن الزمان يتمخض الآن عن كثير من الحوادث الجسام، وإن الفرص سانحة للأعمال العظيمة، وإن العالم ينظر دعوتكم دعوة الهداية والفوز والسلام لتخلصه مما هو فيه من آلام، وإن الدور عليكم فى قيادة الأمم وسيادة الشعوب"، وطاف بدعوته القرى والنجوع وخاطب بها الأمم والشعوب وراسل بها السلاطين والأمراء والملوك، فقدم لهم الإسلام بشموليته وفهمه الوسطى المعتدل "الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا"، فكان يعمل أكثر من عشرين ساعة لا يتعب ولا يجهد، ولا ينام إلا قليلا، كان يسعى ويطوف ويذهب إلى كل قرية وكل نجع يفتش عن الشباب، ويحدث الشيوخ ويتصل بالعظماء والعلماء، فالتف حوله شباب الأمة ورجالها ونساؤها حتى بلغ أتباعه قرابة النصف مليون بعدما زار أكثر من 4000 قرية وأسس أكثر من 2000 شعبة لجماعته فى كل ربوع مصر، إضافة إلى 50 شعبة بالسودان و18 شعبة بدول العالم، وتقاطرت على بيته الذى ينزل فيه وفود المسلمين من إندونيسيا وسيلان والهند ومدغشقر ونيجيريا والكاميرون وإيران والأفغان تتعرف عليه، وحارب الإباحية ووقف أمام حملات التنصير وواجه الأحزاب وجابه الأنظمة الفاسدة وخاض الانتخابات مرتين وجاهد المحتل البريطانى وعصابات اليهود، كل ذلك فى فترة زمنية من العمر لا تزيد عن 20 عاما، مما جعل حياته تتمثل دعوة ابن سينا "اللهم ارزقنى الحياة العريضة". هكذا كانت صناعته للحياة وفق منهج دعوته القائم على أهداف محددة تبدأ ببناء الفرد المسلم فالبيت المسلم فالمجتمع المسلم فالحكومة الإسلامية فالدولة فالخلافة الراشدة على منهاج النبوة فأستاذية العالم، تلك الأهداف التى كان يقول غيره عنها إنها أضغاث أحلام، فكم من نفوس ضالة أرشدها، وكم من عقول جاهلة بصرها، وكم من لبس فى الفهم أزاله، وكم من مفاهيم غائبة أوجدها، وكم من معان ميتة أحياها. وكما أتقن البنا صناعة الحياة أجاد أيضا فى صناعة الموت، فهو الذى قال: "إن الأمة التى تحسن صناعة الموت وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة، يهب الله لها الحياة العزيزة فى الدنيا والنعيم الخالد فى الآخرة" ويعلمنا البنا أن صناعة الموت هى نفسها صناعة الحياة فيقول: "إذن كيف تصنع موتتك؟ أن تكون دائما على طاعة، أن تحسن استقبال الزائر الأخير فى الدنيا، أن تجعل دنياك مزرعة لآخرتك، أن تتذكر الموت والبلى، أن تبنى قبرك بالخيرات، وأن تترك دنياك على الصالحات، وأن ترضى ربك بالطاعات" بهذه الكلمات ربَّى البنا تلامذته وأتباعه فى الجماعة المباركة، وصاغهم على حب الجهاد ونية الاستشهاد، وعلمهم أن هذه الدعوة لا تقبل إلا التضحيات العزيزة التى لا يحول دونها طمع ولا بخل، وأكثَر من ترديد الدعاء: "اللهم ارزقنا الموتة الطاهرة"، وسألهم: أتدرون ما الموتة الطاهرة؟ ثم قال لهم: "والله ما أراها إلا تلك.. وحزَّ بأصابع يده على رقبته، فى مشهد تمثيلى يجسِّد لهم الموتة الطاهرة بأنها التى تُقطع فيها الرقاب فداءً لهذا الدين، وجعل شعار الدعوة يختم بقوله "والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا"، وحينما حدث إخوانه عن عدة تحقيق الأهداف قال: "وقد أعددنا لذلك إيمانا لا يتزعزع، وعملا لا يتوقف، وثقة بالله لا تضعف، وأرواحا أسعد أيامها يوم تلقى الله شهيدة فى سبيله". هكذا أعد نفسه وهكذا أراده الله، وشاءت إرادة الله أن يكون الإمام البنا أول شهيد للدعوة على أرض مصر ليعطى النموذج العملى لدعوته فى فن صناعة الموت، ولقى الله شهيدا فى أول شارع شهد له بأول عمل دعوى فى القاهرة (شارع رمسيس- الملكة نازلى سابقا)، حتى قال عنه صاحب كتاب الرجل القرآنى: "كان لابد أن يموت هذا الرجل الذى صنع التاريخ وحول مجرى الطريق شهيدا، كما مات عمر وعلى والحسين، فقد كان الرجل يقتفى خطواتهم.. ولقد كان خليقا بمن سلك مسلك أبى حنيفة ومالك وابن حنبل وابن تيمية مواجهةً للظلم ومعارضةً للباطل، أن تختتم حياته على هذه الصورة الفريدة المروعة، التى من أى جانب ذهبت تستعرضها، وجدتها عجيبة مدهشة إنه كان يدهش الأجيال بختام حياته". فلما مات كان غريبا غاية الغرابة فى موته ودفنه، فبعدما قتل ونقل للمستشفى وترك ينزف حتى الموت بها، نقلوه إلى بيته فى جوف الليل ومنع أهل البيت من إعلان الفاجعة، وغسله والده وحده، وخيم على القاهرة تلك الليلة كابوس مزعج كئيب، فلم يصل عليه فى المسجد غير والده، وما زالت صورة جنازته ماثلة أمام العين، الرجل الذى جدد لهذه الأمة دينها، والذى وصلت دعوته إلى مشارق الأرض ومغاربها، والذى كان يتبعه نصف مليون، ورغم ذلك يحال بينه وبين أتباعه أن يشيعوه، وتسير جنازته محمولة على أعناق النساء، فى مشهد يحدث لأول مرة فى التاريخ، وابنته الكبرى تتقدم أخواتها فى حمل النعش وتردد: "فلتقر عينك يا أبتاه.. فإنا على الدرب سائرون.. ولئن حالوا بينك وبين أتباعك أن يشيعوك.. فعزاؤنا أن أهل السماء يشيعون معنا ما عجز عنه أهل الأرض". هكذا أتقن الإمام البنا صناعة الحياة وصناعة الموت، وهكذا تربت أجيال الدعوة الأولى، وهكذا نحن من خلفهم نستكمل مسيرة الدعوة، ملتفين حول فكرتنا بائعين الدنيا بالدين، واهبين ما بقى من عمرنا على الحق الذى تحملناه، ونتحمل التبعات والمسئوليات من أجله ونحن منتصرون، ونحن فى شدتنا ونصرنا نهتف: "الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا" فنم قرير العين يا إمامنا فإنا على الدرب سائرون، ودعوتك ترتفع بنورها فى كل مكان.