لا شك أن الكذب هذه الأيام يأخذ أشكالا متعددة، فهناك الكذب على الأب أو الأم، وهناك الكذب على الزوجة، وهناك أيضا الكذب على الوطن، وفى كل الأحوال فالكذب محرم شرعا حيث نفاه النبى الكريم صلى الله عليه وسلم على المؤمن عندما سئل: "هل يكون المؤمن كذابا؟ فقال: لا". والكذب ربما لا يختلف فى بعض أركانه عن الغش؛ لأن فى كليهما محاولة لقلب الحقائق، وأتذكر أستاذا لى فى مرحلة الإعدادية بمعهد الهدى الإعدادى الأزهرى بحلوان واسمه زكريا يحيى سليمان، عندما اقتربنا من امتحان آخر العام أخذ ينصحنا بأهمية المذاكرة، فقال له أحد الزملاء: إن هناك عمليات غش قد تحدث دون رقيب أو حسيب، ومن ثم فمَن ذاكر واجتهد كمن لعب ولم يهتم، ولكن هذا الأستاذ الذى أكنّ له تقديرا كبيرا جدا، قال وقتها: إذا أردت أن تغش فلا بد أن تذاكر حتى لا تغش خطأً، وإذا ذاكرتَ فاعلم أنك لست بحاجة إلى الغش. وللعرب قول مأثور حول الكذب وهو "إذا كنت كَذُوبا فكن ذَكُورا.. حتى لا ينكشف كذبك". ولكنّ فن الغش والكذب هذه الأيام ربما أصبح سهلا ويمكن تعليمه؛ لأنه بات دون عقاب معنوى أو مادى، أما المعنوى فهى ردود الأفعال السلبية بعد انكشاف الكذب أو الغش، وأما المادى فلأن نيران الإعلام سوف تنفتح دون توقف إذا ما لجأ أحد إلى القضاء ليتصدى لهذا الكذب والتضليل، وبين هذا وذاك يقف المواطن المصرى حائرا بين ما يحدث، سائلا نفسه بين الكذبة والأخرى: أين الحقيقية إذن؟ عندما شاهدت الأخ المنشق شريف البحيرى وهو يتحدث عن إشراف الإخوان على عمليات التعذيب داخل معسكرات الأمن المركزى، وأنه جاءه تكليف من الإخوان لكى يشارك مع إخوة آخرين فى عمليات التحقيق، وأنه دخل بنفسه سلخانات التعذيب وشاهد تعذيب الجندى وغيره، سألت نفسى عن مسئول الأخ البحيرى المنشق منذ فترة طويلة "وفقا لشهادته"، الذى اتصل به لكى يشارك فى هذا التحقيق، وسألت نفسى: هل هذا الأخ المسئول كان نائما لكى يستدعى هذا المنشق أم أن الإخوان قرروا فضح بعضهم البعض؟ ولأنى على ثقة فى كذب ما قاله البحيرى الذى تتزامن تصريحاته مع محاولة إلهاب مشاعر الجماهير معتادة الخروج فى المظاهرات الأخيرة ضد جماعة الإخوان المسلمين، فقد تتبعت أحاديثه المتكررة فى قنوات عدة، لأتذكر مرة أخرى قول العرب: "إذا كنت كذوبا فكن ذكورا"؛ وذلك لأن الأخ المنشق البحيرى خلال إيجاباته على أسئلة مقدمى البرامج من وائل الإبراشى إلى محمود سعد، مرورا بمنى الشاذلى، لم يستطع أن يتقن ترديد الإجابات نفسها التى تدرب عليها؛ لأن الأسئلة وإن كانت تسير فى مسار واحد إلا أنها كانت تختلف من مذيع لآخر، ويبدو أن البحيرى لم يحصل على "سكريبت" الأسئلة لكل البرامج حتى يتقن الإجابات، ومن هنا كانت الحقيقة التى تؤكد كذبه، مثله مثل سائق التاكسى الذى ركبت معه والدتى وشقيقتى الكبرى، وأخذ يقسم بكل الأَيْمان أن المهندس خيرت العريان متجوز 15 امرأة فى عام واحد، وأن الرئيس مرسى لم يسكن فى التجمع قبل أن يكون رئيسا، حيث كان مقيما فى الزقازيق، واشترى القصر على حساب الإخوان أو الدولة، مش مهم.. ولكن المهم أن السائق يرفض تصحيح المعلومات أو حتى قبول النصح وتصحيح المعلومات التى ترددها بعض وسائل الإعلام التى أتقنت فن صناعة الكذب. ما قاله البحيرى الذى فضحه كذبه تبين أنه كان عضوا فى حملة الفريق أحمد شفيق بالعمرانية، هذا بخلاف أن شكله وطريقة أدائه تشير إلى أن أدبيات الإخوان التى تظهر على ملامحهم وفى كلماتهم غائبة عنه تماما. عموما من السهل على إخوان العمرانية أن يوضّحوا كذبه وينشروا للناس سيرته الشفشقية، ويجب هنا أيضا أن نربط بين ما قاله البحيرى الذى تواكب مع استمرار الغضب الشعبى تجاه محاولات اقتحام القصر الجمهورى على يد مجموعات من الفوضويين غير الثائرين، وما سبق مع حمادة باشا المسحول الذى غطت موقعة سحله المرفوضة على مهازل بعض قوى المعارضة ومنهجها المسلح فى التغيير السلمى. الأخطر من ذلك أن البحيرى شفيق وحمادة المعجزة الذين تحولوا من فلوليين أصليين إلى مناضلين ثوريين يريدون استكمال أهداف الثورة، وجدوا مساحات إعلامية منتقاة للتعبير عن كذبهم وتضليلهم الرأى العام، دون أن يقف هذا الإعلام مع نفسه وقفة ضمير.. ويسأل نفسه: هل المساهمة فى هذا التضليل ستكون له فائدة على الوطن؟ وهل ما يمكن أن يحققه الكذب من مكاسب قصيرة المدى يمكن أن يستمر إذا ما كشّر الشعب عن أنيابه بشكل جاد وخرج ليوقف هذه المهزلة المستمرة، التى تجد لها مَن يمنحها غطاء سياسيا مشبوها. الثورة التى حدثت لم تقطع طريقا أو تنتهك حرمة منشأة عامة أو خاصة، بل إن أجساد الثوار هى التى حمت المتحف المصرى ومبنى التليفزيون من البلطجية، الذين ظنوا أن الثورة فرصة للنهب، وهم أنفسهم الثوار الذين لم يعطّلوا العمل فى مجمع التحرير طوال 18 يوما، أو يقوموا بوقف قطارات المترو بالقوة، وهم أنفسهم الثوار الذين شكلوا لجانا شعبية للتصدى لقطاع الطرق والبلطجية، بل هم الذين ذهبوا لقصر الاتحادية ليهتفوا برحيل مبارك دون أن يكون معهم طوب أو خرطوش أو مولوتوف.. هذه هى الثورة وهؤلاء هم الثوار. --------------------------- أحمد سبيع [email protected]