الثورة المصرية فى 25 يناير 2011 كانت ثورة ذات صبغة متميزة مستمدة من العبقرية المصرية، فقد كانت ثورة شعب بأكمله خرج يطالب بحقوقه المهضومة وحرياته المصادرة ويتصدى للفساد والاستبداد، وتجلت فيها أروع ما فى البشر من خصائص: الشجاعة، والتضحية، والاتحاد، والحب، والثبات، والصبر، والإيثار، والعفاف، والشرف، والأمانة. وكان أروع ما فيها سلميتها، فقد خرجت الملايين الهادرة تستقبل بصدورها رصاص شرطة النظام البائد، وتتلقى الضربات، وتستنشق الغازات، ويقاد بعضها إلى المعتقلات دون أن تستفز أو تغير سياستها أو تلجأ إلى العنف، وكان هذا هو مصدر قوتها وعظمتها، وقضت الجماهير ثمانية عشر يوما فى الميادين، انصهرت فى بوتقة واحدة والتحمت التحام الأعضاء فى الجسد الواحد، لم يشك أحد من الزحام، تقاسموا الخبز، وافترشوا الأرض، ذابت بينهم الأيديولوجيات والتحزبات والطبقات، توجهوا إلى الله، كلٌّ حسب ديانته، فالمسلم يصلى والمسيحى يصب عليه ماء الوضوء، والمسيحى يصلى على المنصة فى رعاية المسلمين، والبنات والسيدات فى مأمن لا تمتد إليهن يد آثمة ولا يتعرضن لتحرش بالفعل أو بالقول، والجميع يحمون المبانى والمنشآت والممتلكات، والشباب يتنافس على الشهادة حماية لمن خلفه وإرواء لشجرة الحرية للشعب والوطن من بعده، وحينما انهارت شرطة النظام، دفع رأس الظلم الجيش لإخماد الثورة، غير مدرك أن الجيش هو جيش الشعب، وأنه سيفه ودرعه؛ فلجأ بعد ذلك إلى جحافل البلطجية الذين رباهم ليستخدمهم فى الملمات، وفتح للمسجونين منهم أبواب السجون، وأطلقهم على الشعب الأعزل، وكانت موقعة الجمل المشهودة التى كانت موقعة فاصلة فى تاريخ الثورة، أبلى فيها الشباب -وعلى رأسهم الإخوان المسلمون- أعظم البلاء، وتكسرت موجات هجوم البلطجية على صخرة صمود الشباب، حتى أيقن النظام ألا سبيل لإخماد الثورة، فاضطر مكرها إلى التنحى، وهكذا انتصر السلم على العنف والدم على السيف والحق على الباطل والشعب على البطش والإرهاب، وهذا هو أعظم دروس الثورة. وخرج الناس من الميادين فوجدوا الأمن غائبا، والبلطجية يعيثون فى الأرض فسادا، ويعتدون على الأنفس والممتلكات، بعدما قاموا بإحراق عدد من المؤسسات فى أثناء الثورة، فشكّل الأهالى لجانا شعبية لحماية أنفسهم وذويهم وجيرانهم وممتلكاتهم ومؤسسات الدولة، وتنظيم المرور وتنظيف الشوارع، وانتشرت دعوات راقية بوجوب احترام إشارات المرور، واحترام القانون وعدم دفع أو قبول رشاوى، والحفاظ على المال العام، وأداء الواجبات قبل المطالبة بالحقوق، وهذا أعلى من قيمة الإيجابية؛ وهو ما يعتبر الدرس الثانى من دروس الثورة. وقد كانت الرغبة فى الحرية والتحول نحو الديمقراطية من أهم مطالب وشعارات الثورة وتأكيد سيادة الشعب، وهو ما تجلى فى الانتخابات البرلمانية (الشعب والشورى)، ثم الانتخابات الرئاسية، ثم وضع الدستور والاستفتاء عليه، إلا أنه -للأسف الشديد- لم تتوقف محاولات التعويق والإفشال، بعد أن تخندقت بعض القوى السياسية فى خنادقها وأعلت من شأن مصالحها الخاصة، وتنكرت لسيادة الشعب واحترام إرادته، وانقلبت على مبادئ الديمقراطية، ورفضت خيارات الشعب، وأصرت على فرض رؤيتها وإرادتها، وتعاونت مع أعداء الثورة فى الداخل من أنصار النظام السابق وفى الخارج من الكارهين للثورة؛ خوفًا من امتداد عدواها إليهم وللإسلاميين، حتى لا يصبحوا مثالاً تتطلع إليه الشعوب، وأيضا القوى العالمية التى تريد لمصر أن تظل منكفئة على نفسها تعانى من مشكلاتها حتى لا تستعيد عافيتها ومكانتها فى المنطقة. وهكذا انطلقت الثورة المضادة تغتال آمال الجماهير، فكلما أقام الشعب مؤسسة دستورية سعوا إلى هدمها، فحلّوا مجلس الشعب الذى انتخبه أكثر من ثلاثين مليونا من الشعب، وأنفق على انتخاباته مليارًا وستمائة مليون جنيه، واستغرقت الانتخابات زمنا طويلا وجهدا كبيرا، هذا غير ما أنفق على الدعاية الانتخابية، ثم شرعوا فى هدم مجلس الشورى والجمعية التأسيسية لوضع الدستور، وهددوا بعدم السماح بإجراء الاستفتاء عليه، وإذا وافق عليه الشعب فلن يعترفوا به وسيسقطونه، وبعدما فشلوا فى ذلك بدءوا فى جحود شرعية الرئيس المنتخب، وأنهم سيشكلون مجلسا رئاسيا، وعندما رفض الشعب هذه الدعوات، لجئوا إلى تسيير المظاهرات التى يسير فيها معارضون للنظام القائم، وهذا أمر مقبول، لولا أنهم يطلقون خلالهم أعدادا من البلطجية المأجورين المسلحين، يعتدون على رجال الشرطة على عكس ما كان يحدث فى يناير 2011، ويقتلون حتى بعض المتظاهرين معهم حتى يسيل الدم ويشتعل الموقف ويحرقون المقرات والمنشآت العامة والخاصة: المدارس والمجمع العلمى ومبانى المحافظات وبعض الفنادق، مستخدمين الأسلحة النارية والخرطوش وقنابل المولوتوف وكسر الرخام، والأدهى من هذا كله مهاجمة قصر الرئاسة، ومحاولة اقتحامه، وإضرام النار فيه، إضافة إلى الجريمة البشعة والمتكررة من أولئك المجرمين، وهى التحرش الجنسى، حتى وصلت حالات الاغتصاب الجنسى الجماعى للفتيات والسيدات ثلاثا وعشرين حالة فى يومى 25 ، 26 يناير 2013 هذا عدا الحالات التى تحاشت الإبلاغ؛ خوفا من الفضيحة. كما قامت مجموعات عديدة بقطع الطرق والكبارى وتعطيل مترو الأنفاق وخطوط السكك الحديد، فى محاولة لإثارة الفوضى والرعب والإرهاب فى المجتمع، وضرب مقومات الحياة الاقتصادية بتعطيل المصانع والإنتاج وطرد السياح وتعطيل الفنادق والخدمات؛ الأمور التى تؤدى إلى مزيد من التدهور الاقتصادى وانخفاض الجنيه أمام العملات الأجنبية، مما يؤدى إلى ارتفاع الأسعار وخفض المكانة الائتمانية لمصر، من أجل قيام ثورة جياع، وهذه كلها معالم الثورة المضادة التى يقودها نفر، يأبون الاستجابة لصوت العقل ووحى الضمير، ودعوة الرئيس للحوار من أجل الصالح العام، ويقدمون على ذلك كله مصالحهم الخاصة، ولو أدت إلى خراب البلاد وهلاك العباد. هذا فى الوقت الذى من المفروض أن يستعد الجميع للتنافس الشريف على ثقة الشعب فى انتخابات مجلس النواب الجديد، نجد أن أسلوب البلطجة والإرهاب هو الذى يستخدمه المعارضون للنظام بديلاً عن العمل السياسى. وهكذا تتضح أمامنا خصائص الثورة المضادة: استخدام العنف والبلطجة والقتل والتخريب والتدمير والتحرش والاغتصاب الجنسى للنساء، وقطع الطرق وتعطيل المواصلات وتدفق المال الحرام من الداخل والخارج لاستئجار البلطجية المرتزقة لإحداث هذا الفساد العريض، ورفض التنافس السياسى الشريف وعدم احترام الشعب وإرادته والديمقراطية ومبادئها، ومحاولة فرض الرأى واغتصاب السلطة، وتقديم المصالح الخاصة على المصالح العامة، ورفض الحوار والتفاهم السلمى، ومحاولة هدم مقومات الدولة، خصوصا المقومات الاقتصادية. ورغم هذا كله فالشعب المصرى بوعيه الفطرى وبحريته التى انتزعها انتزاعا، ولن يفرط فيها، وبتطلعاته وآماله يعرف جيدا من الذى يحافظ على ثورته، ويؤتمن على أهدافها ويسعى للإصلاح، بعيدا عن المصالح الشخصية والفئوية والحزبية، ومن الذى يهدف إلى تحقيق مصالحه، ولو على حساب الشعب والوطن والثورة، وإذا كان هناك من تأثر بقادة الثورة المضادة وإعلام الفتنة والتضليل، فإن الغالبية العظمى من الشعب تعرف الحقيقة وتنحاز إلى الحق وإلى الثورة الحقيقية، ولن تخضع مصر بعد ذلك -بإذن الله- ولن تهون.