قال تعالى: ?وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِى الصَّالِحُونَ إِنَّ فِى هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ? (الأنبياء:105 ،106). إن الجيل الذى سيكتب الله على يديه التمكين جيل عابد لله عز وجل.. كثير الذكر، كثير الطاعة.. جيل تعرفه الملائكة، وتشهد له المساجد بأنه من عمَّارها وأوتادها. يبكر للصلاة، ويحافظ على السنن.. لا يفوته قيام الليل مهما كان تعبه.. له أوراد يحافظ عليها من نوافل وصلوات وكذلك الأذكار وقراءة القرآن.. قرة عينه فى الصلاة.. يطيل الركوع والسجود، ويكثر مناجاة ربه.. كثير الإنفاق.. كثير الصيام.. كثير الدعاء.. لا يشغله اهتمامه بالناس ودعوتهم عن اهتمامه بنفسه، فهو دومًا يحافظ على توازنه، وزاده الإيمانى. وصفهم ربنا سبحانه وتعالى وصفا دقيقا بعبادتهم وتضحيتهم فى قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 111- 112]. هؤلاء هم الذين يرفعهم الله إلى مصاف قادة الأمم، وهذه سنة الله الثابتة فى عباده العابدين، فيقول تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]. وهكذا كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.. يصف على بن أبى طالب -رضى الله عنه– الصحابة فيقول: لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلم أر اليوم شيئًا يشبههم، لقد كانوا يُصبحون شُعثًا غُبرًا، بين أعينهم أمثال رُكب المعزى، قد باتوا لله سُجدًا وقيامًا، يتلون كتاب الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا ذكروا الله فمادوا كما يميد الشجر فى يوم الريح، وهَملَتْ أعينهم حتى تبلّ ثيابهم.. لقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- شديدى الحرص على العبادة وعلى الصلاة، وبخاصة صلاة الجماعة بالمسجد، يقول ابن مسعود رضى الله عنه: "من سرّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم عليه الصلاة والسلام سُنن الهدى وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم فى بيوتكم كما يصلى هذا المتخلف فى بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهرَّ فيُحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقام فى الصف". ويقول عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: كنا إذا فقدنا الرجل فى الفجر والعشاء أسأنا به الظن. ومع شدة حرصهم على صلاة الجماعة، كانوا كذلك حريصين على قيام الليل، وكانوا يتعاملون معه على أنه مصدر أنسهم وسعادتهم، ولم يكن يصرفهم عنه تعب ولا سفر. فكانوا كما وُصفوا رهبانًا بالليل، فرسانًا بالنهار، يحيون ليلهم بطاعة ربهم، بتلاوة، وتضرع، وسؤال وعيونهم تجرى بفيض دموعهم، مثل انهمار الوابل الهطال، فى الليل رهبان، وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الأبطال، وإذا بدا علم الرهان رأيتهم بصالح الأعمال. جاءت هند زوج أبى سفيان -رضى الله عنهما- زوجها صبيحة فتح مكة، فقالت له: أريد أن أبايع محمدًا صلى الله عليه وسلم، قال أبو سفيان: قد رأيتك تكفرين، قالت: إى والله، والله ما رأيت الله تعالى عُبد حق عبادته فى هذا المسجد قبل الليلة، والله إن باتوا إلا مصلين قيامًا وركوعًا وسجودًا. وقال كعب الأحبار فى وصف أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم: أجد فى التوراة: .. وأُمته الحمّادون، يحمَدون الله على كل حال، ويسبحونه فى كل منزلة، ويوضئون أطرافهم، وصفهم فى الصلاة، وصفهم فى القتال سواء، رهبان بالليل أسد بالنهار، لهم دوىّ كدوىّ النحل، يصلون الصلاة حيثما أدركتهم. فالعبادة طريق القيادة، والعُبّاد يرفعهم الله بعبادتهم، وينصرهم ويمكّن لهم.