الحاجة إلى الأمن من الحاجات النفسية المهمة للإنسان، صغيرا كان أم كبيرا، رجلا كان أم أنثى، لذلك لما خرج موسى -عليه السلام- من مصر خائفا، وجاء إلى الشيخ الحكيم شعيب بمدين، وقص عليه القصص سارع شعيب بطمأنة موسى عليه السلام وإزالة الخوف عنه. ولقد صور القرآن الكريم هذا المشهد بقول الحق تبارك وتعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25]. ويعرف علماء النفس الأمن بأنه: "شعور الإنسان بسلامته، وسكينة نفسه، وطمأنينة قلبه دون خوف ولا اضطراب". أهمية الأمن للإنسان: قد يستغنى الإنسان عن الطعام والشراب، وقد يسكن فى خيمة أو فى سكن بسيط متواضع، ويمارس حياته بشكل طبيعى، ولكنه لن يستطيع أن يعيش خائفا غير آمن. يقول صاحب الظلال: "كان موسى فى حاجة إلى الأمن، كما كان فى حاجة إلى الطعام والشراب، ولكن حاجة نفسه إلى الأمن كانت أشد من حاجة جسمه إلى الزاد، ومن ثم أبرز السياق فى مشهد اللقاء قول الشيخ الوقور (لا تخف)، فجعلها أول لفظ يعقب به قصصه، ليلقى فى قلبه الطمأنينة، ويشعره بالأمان". فعلى الرغم من أن علماء النفس يجعلون الحاجة إلى الأمن من الحاجات الثانوية للإنسان، وعلى الرغم من أن الطعام والشراب وغيرهما من الحاجات الجسمية يعدها علماء النفس من الحاجات الأساسية للإنسان.. إلا أن شعيبا كان حكيما فى طمأنة موسى وتأمينه وإزالة الخوف عن نفسه قبل قضاء حاجاته الجسمية، لأن الإنسان إن كان خائفا وأمامه ألذ وأشهى الأطعمة والمشروبات فلن يستمتع بها، ولن يذوق للنوم طعما. كيف نحقق أمننا؟ للناس فى طلب الأمن وتحقيقه وسائل شتى، فبعضهم يسلك طرقا فى الاتجاه المعاكس، ففرعون مثلا ذبح الأبناء أطفالا ظنا منه أن فى ذلك نجاة له من قدر الله، ولكن هيهات هيهات.. لقد هلك فرعون وضاع ملكه وعزه على يد موسى عليه السلام، بعد أن رباه فى قصره!!! وقد صور القرآن الكريم جبروت فرعون وطغيانه وعلوه فى مواضع كثيرة، ومن ذلك قول الله عز وجل: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: 4). ولقد انتهج الصهاينة نهج فرعون، فقتلوا الأطفال الأبرياء والكبار رجالا ونساء وشيوخا وهم أصحاب الأرض الحقيقيون، ظنا من الصهاينة أن هذا سيضمن أمنهم، فنسمعهم ونراهم يرددون مبررين لأفعالهم الشنيعة: "أمننا فوق كل شىء"!!! لقد غالوا هم وغيرهم فى التسلح وتطرفوا وطغوا فى البلاد فأكثروا فيها الفساد، وكان جديرا بهذه الدول -خاصة ذات الأديان السماوية- أن تعتبر مما حدث للأمم السابقة، فهذه عاد استكبرت فى الأرض بغير الحق واغترت بقوتها فماذا كان مصيرها؟ يقول الله عز وجل: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنْصَرُونَ} [فصلت: 15- 16]. ولقد أكد القرآن الكريم ذلك فى أكثر من موضع، ففى غزوة بدر ربط الله على قلوب المؤمنين، فأنزل الله الأمن والطمأنينة والسكينة فى قلوب المؤمنين حين غشاهم النعاس. قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ} [الأنفال: 11]. كما أرسل ملائكته إلى عباده المؤمنين المجاهدين طمأنينة وبشرى وتثبيتا لهم. قال عز وجل: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال: 12). وفى غزوة أحد عندما أصاب المؤمنين غم أنزل عليهم النعاس، ليكون سببا فى تسكين القلوب وطمأنتها. قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنْكُمْ} (آل عمران: 154). والطائفة المقصودة هنا هى الطائفة المؤمنة، لأنه عز وجل تحدث عن طائفة أخرى وجدت فى الميدان وهم المنافقون الذين قال عنهم: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ}. مصدر الأمن هو الله: الله تبارك وتعالى هو المصدر الحقيقى للأمن، ولذلك إن خوف العبد من طواغيت الدنيا، فينبغى للعبد أن يتوجه إلى ربه يطلب أمنه، قال تعالى مؤكدا أنه هو الذى يؤمّن عباده: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 – 4]. فالذى يملك الأمن للبشر هو الله تعالى، ولكنه لا يمنحه إلا لمن عبده وآمن به. وفى ذلك يقول رب العزة سبحانه: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدوننى لا يشركون بى شيئا" (النور: 55). السبيل إلى الأمن والأمان: لفظة الأمن ومشتقاتها اللفظية تأتى فى القرآن الكريم غالبا مقرونة بالإيمان والعقيدة والتوحيد، وهذا يؤكد أن الطريق إلى الأمن هو طريق واحد، ألا وهو إيمان العبد بربه وقربه منه سبحانه وتعالى، لذلك ضرب الله مثلا بالقرية الآمنة التى وسع الله على أهلها فى أرزاقهم، فلما كفرت تجرعت مرارة الجوع وخطر الخوف. يقول عز وجل: "وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ". ولذلك فإن دعاء إبراهيم -عليه السلام- اقترن فيه الأمن بالإيمان قال تعالى: "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" (البقرة: 126). وكذلك فى سورة إبراهيم اقترن الأمن بالإيمان فى دعوة إبراهيم عليه السلام. قال سبحانه: "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبنى وبنى أن نعبد الأصنام" (إبراهيم: 35). وفى حوار إبراهيم عليه السلام مع المشركين بين لهم أن الإيمان هو السبيل إلى الأمن والأمان. قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: "وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأى الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" (النور: 82). وإجمالا فإن قصة موسى بوجه عام ورحلته إلى مدين خاصة تؤكدان رعاية الله وتأمينه لعبده موسى الذى لجأ إليه "فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجنى من القوم الظالمين" فى وقت كان فرعون وجنوده يطاردونه، فرعته القدرة الإلهية وحمته وأمنته فى وقت تخلت عنه كل القوى الأرضية.. فليتنا نتعلم سبيل أمننا، فنقتفى أثر سلفنا.