أنهيت مقال الأسبوع الماضى بالتساؤل عما يجرى فى مبنى ماسبيرو فى ظل وزير إخوانى، لم نشعر مع وجوده بتغيير ذى قيمة فى السياسة الإعلامية القائمة على التضليل والتحريض على الإسلاميين، وقلت إن هذا المبنى ملك للشعب الذى صوتت أغلبيته للإسلاميين، ومن حقنا على الوزير أن يجنده لخدمة الشرعية القائمة، وألا يبالى باتهامات "الأخونة" التى تستهدف شل إرادته وتعجيز قراره. ولا يعنى ذلك أن تتحول البرامج إلى خدمة رأى واحد، مع إقصاء الآخر، لأنه لا يجوز لإسلامى منصف أن يفعل بالعلمانيين ما فعلوه هم بنا على مدار ستة عقود من حظر وإقصاء.. فالبون شاسع بين قيمنا وقيمهم وأخلاقنا وأخلاقهم. ولكن المقصود هو أن يحظى الإسلاميون فى قنوات التليفزيون القومى بما تحظرهم عنه فضائيات الفتنة العلمانية، وهو الدفاع عن النفس ضد الحرب الإعلامية الشرسة، والقصف الفضائى الذى لم يتوقف منذ عشرين شهرا. نحن لا يوجد أمامنا فى المدى القصير سوى خيارين للدفاع عن أنفسنا.. إما من خلال منابر ماسبيرو، وإما من خلال منابر المساجد. وفى تقديرى، فإن الخيار الأول هو الأفضل، على الأقل فى الوقت الحالى.. إلا إذا أغلقت أمام الإسلاميين كل منافذ الدفاع عن النفس. غير أن هناك مشكلة كبيرة وعائقا ضخما.. وهو أن الإخوان لا يعيرون اهتماما يذكر للإعلام، ولا يشعرون بخطورته كسلاح قادر على غسل العقول وتشكيل الأفكار وتوجيه الرأى العام. ترسخ انطباعى هذا عن موقف الإخوان من الصحافة الإعلام منذ سنوات، عندما لاحظت أن أصدقائى الإخوان لا يقرءون أيا من الصحف اليومية، غير أنى لم أتصور أن هذا سيكون أيضا موقفهم مع صحيفة الحزب الذى خرج من عباءة الجماعة، أى هذه الصحيفة التى يقرؤها القارئ الآن. ويؤكد هذا الأمر ما كتبه الأستاذ محمد عبد القدوس فى مقالين عن عدم اهتمام حزب (الحرية والعدالة) بالصحيفة المعبرة عنه، لدرجة قوله إن "الصحيفة ليست من أولويات الحزب"، ولدرجة أن الصحيفة لا يوجد لها حتى اليوم مجلس إدارة، ولا إدارة إعلانات، ولا موقع على الإنترنت قادر على منافسة مواقع جذابة لصحف أخرى مثل موقع (اليوم السابع) أو (الشروق). لا جدال فى أن عقود الحكم السابقة التى حظرت على الإخوان الاشتغال بأى نشاط له علاقة بالصحافة والإعلام، هى سبب رئيس فى افتقادهم الكوادر المتخصصة إعلاميا. هذا مفهوم. ولكن ما هو غير مفهوم وغير مقبول، أن تكون هذه العقود، وما تعرضوا خلالها من قصف صحفى وإعلامى متواصل، سببا فى لا مبالاتهم بالإعلام وإهمالهم له. هل وصل الأمر إلى حد الفوبيا؟ أيا كان السبب فلا يجوز الاستسلام له، لأن الأمر جد خطير، ومرتبط بانتهاك سنة إلهية -كما أكدت فى مقال الأسبوع الماضى- تفرض على المعتدى عليه أن يدفع فى الاتجاه المضاد للعدوان، وإلا عم الفساد وانتشر الخراب. وعليه، فلا يجوز أن تصل اللامبالاة إلى درجة إهمال الصحيفة الوحيدة المعبرة عن الإخوان. يذكرنى هذا المسلك الإخوانى تجاه الصحافة والإعلام بمواقف غالبية العرب والمسلمين فى الولاياتالمتحدة وبريطانيا إزاء المنابر الإعلامية هناك، خاصة الصحف التى لا يقرءونها؛ حيث وصل تجاهلهم للإعلام ولامبالاتهم به إلى درجة أنه يندر أن ترى عربيا أو مسلما يصوغ "خطاب إلى المحرر" ردا على افتتاحية مغرضة أو مقال ظالم، وكأن ما ينشر ويبث عن منطقتنا لا علاقة لهم به. والنتيجة أنهم تركوا الساحة الإعلامية خالية للصهاينة لكى يعربدوا فيها ويتلاعبوا بعقول الأمريكيين والأوروبيين كما شاءوا. إن غياب الإحساس بخطورة الإعلام قد يفسر أسباب ضعف الإرادة الإخوانية فى إنشاء صحف وفضائيات جاذبة للقارئ والمشاهد.. وهذا بدوره قد يفسر لنا، ليس فقط أسباب بقاء مبنى ماسبيرو على حاله تحت إدارة الوزير الإخوانى، ولكن أيضا إصرار قيادات الإخوان على الظهور فى الفضائيات العلمانية، التى تستغل ظهورهم على شاشاتها لادعاء الحياد وإبراز الرأى الآخر، بينما الحقيقة أنهم يتعاملون بدرجة عالية من الخبث والشيطانية مع "الرأى الآخر". وهناك أمثلة عديدة لذلك فصلتها فى مقالين سابقين فى هذه المساحة. وهو وضع أشبه ما يكون بوضع النواب العرب داخل الكنيست الإسرائيلى.. يعبرون عن رأيهم، والنتيجة صفر، لأن الإطار العنصرى الذى يحتويهم هو الطاغى، وهو الذى يفرض أجندته فى النهاية. إن وسائل الخداع والتدليس لا تنتهى فى برامج "التوك شو"، وغالبية الإسلاميين لا تنتبه إلى الكيفية التى يجرى استغلالهم بها. ورأيى فى التعامل الأمثل مع الفضائيات العلمانية، كان وما زال، هو المقاطعة، ليس فقط عقابا لهذه الفضائيات على عنصريتها السياسية، ولمذيعيها على تحيزاتهم المسبقة، وإنما أيضا لوضع حد للتدليس وتشويه الصورة أمام المشاهد. وأستثنى من هذه المقاطعة برنامج الإعلامى عمرو الليثى، الذى أرى أنه أكثر مقدمى البرامج موضوعية وأقربهم إلى الحياد بين الضيوف. آن الأوان أن يرى المشاهد هذه البرامج على حقيقتها دون رتوش، ودون أن ينخدع بوجود ضيف إسلامى. آن الأوان أن يخصص الأستاذ صلاح عبد المقصود البرامج الحوارية فى الفضائيات المصرية لعرض الأفكار والآراء الإسلامية، حتى يتحقق التوازن المطلوب بين التيارين فى الساحة الإعلامية، مع استضافة من العلمانيين ما يكفى لذر الرماد فى العيون. كما آن الأوان أن نستقدم إلى التليفزيون القومى الكفاءات الإعلامية المصرية فى (الجزيرة)، وغيرها من الفضائيات العربية. إن ما أنادى به هو دعوة لإنقاذ المشاهد من الغش الإعلامى، لكى تكون الرسالة الإعلامية واضحة أمامه.. فمن أراد أن يستمع إلى الغوغائية العلمانية فليذهب إلى الفضائيات الخاصة.. ومن أراد أن يستمع إلى الوسطية الإسلامية فليذهب إلى الفضائيات القومية (التليفزيون الرسمى).. ومن أراد أن يستمع إلى السلفية المتشددة فليذهب إلى الفضائيات الدينية. الإسلاميون الوسطيون فى حاجة إلى أن يستقلوا إعلاميا بعيدا عن سطوة البرامج العلمانية وما تفرضه على ضيوفها من قيود وألاعيب. دون هذه الاستقلالية، لن نتمكن من الدفاع عن أنفسنا داخليا وإقليميا. إن من يطالع مواقع الصحف العربية على الإنترنت مثل (الشرق الأوسط) و(الحياة) و(الخليج) و(السفير) وغيرها، يفاجأ بأن ما يكتب فيها يكاد يكون نسخة طبق الأصل لما يتردد فى منابر الإعلام العلمانى فى مصر. فى هذه الصحف، هناك غياب كامل للرؤية الإسلامية للأحداث. والسبب فى ذلك أمران.. أولهما مرتبط بهوية القائمين على هذه الصحف (علمانية خليجية أو ناصرية شامية)، والتى تجعلهم يرددون بلا نقاش كل ما يزعمه أقرانهم فى مصر. أما السبب الثانى فهو غياب الكوادر الإسلامية التى تستشعر خطورة هذا الوضع، وتتطوع بالكتابة إلى هذه الصحف، وترسل ردودا على ما ينشر فيها من مقالات وتقارير منحازة بالكامل للغوغائية العلمانية. أين كوادر الإخوان المنتشرون على مواقع التواصل الاجتماعى؟ أين الصحفيون والكتاب الإسلاميون؟ عندما تقرأ ما يكتبه، على سبيل المثال ميشيل كيلو السورى وطلال سلمان اللبنانى، وعبد الرحمن الراشد السعودى وجهاد الخازن وغيرهم، تجد من يتوقع "سقوطا سريعا للإخوان"، ومن يطالب بانقلاب عسكرى، ومن يتهم الإخوان بأبشع الاتهامات. إزاء ذلك، يستشعر المرء أهمية الوجود الإسلامى على صفحات هذه الصحف من أجل تخفيف حدة الشيطنة وما تؤدى إليه، مع مرور الزمن واستمرار "الزن على الودان"، من تأليب المجتمعات العربية على الإخوان، وتوفير ذرائع لأنظمة الخليج لاتخاذ مواقف عدائية تجاه مصر. إن الإعلام العلمانى يتعمد تشويه صورة ما يجرى فى مصر من أجل تأليب العسكر فى الداخل، وتأليب الأنظمة العربية وحكومات الغرب فى الخارج، على حكم الرئيس مرسى، حتى يستطيع الاستقواء بكل هؤلاء على إرادة الأغلبية المصرية. نحن لدينا ذخيرة هائلة ضد العلمانيين نستطيع من خلال فضائياتنا وصحفنا ومواقعنا، أن نشن بها حربا إعلامية عليهم أشد قسوة وشراسة من حربهم علينا. هذه الذخيرة فى معظمها فاضحة، ويكفى جزء ضئيل منها لتدمير المستقبل السياسى لكثير من رموز المعارضة. لماذا بدلا من هذه الجلبة التى يثيرها بعض الإسلاميين ضد باسم يوسف، لا يظهر إسلامى مبدع فى فن السخرية، يتلقف تصريحات قيادات ومنظرى العلمانية، ويفضحهم من خلالها؟ لكننا للأسف متقاعسون متخاذلون، ولا أرى حتى الآن بادرة تنبئ بانتفاضة قريبة على هذا الوضع، الذى إذا استمر، فإن العواقب ستكون وخيمة.