المحاولات التى يسعى المعارضون إلى فرضها الشهور الماضية، والتى تزايدت وتيرتها الأسبوع الماضى، تصب فى اتجاه إسقاط الشرعية، ومحاولة تكرار نموذج الثورة الشعبية الجارفة التى أطاحت بالرئيس المخلوع. ولا شك أن محاولات الربط بين ثورة يناير التى أطاحت بالمخلوع واحتجاجات المعارضة على قرارات الرئيس وإعلانه الدستورى وإحالته مشروع الدستور للاستفتاء، لا يمكن بحال أن تكون ذات اعتبار. ولعل أهم الفروق التى تفصل بين الأمرين؛ أن الثورة الأولى كانت ضد نظام مستبد، عطَّل الحياة الحزبية، وزوَّر الانتخابات، واستمر فى سدة الحكم بعيدا عن أية شرعية شعبية. وفى المقابل فإن الرئيس مرسى جاء من خلال انتخابات شعبية حرة، أكسبته شرعية قانونية ودستورية لحكم البلاد لفترة رئاسية كاملة تمتد أربع سنوات، يحق للشعب بعدها أن يقيِّم التجربة، ويحكم عليها بالسلب أو الإيجاب، ويأخذ قراره بإعادة انتخاب الرئيس أو عدم انتخابه. الفارق الثانىبين الحالتين أن ثورة يناير كانت محل إجماع وطنى ضم كافة التيارات والقوى السياسية الفاعلة فى المجتمع، وفى مقدمتها التيار الإسلامى بكافة فصائله ومكوناته. وفى المقابل فإن معارضة الرئيس محمد مرسى ليست محل إجماع شعبى رغم مساعى القوى العلمانية الليبرالية واليسارية إلى صناعة تحالف جديد مع فلول النظام البائد، بديلا عن تحالفها السابق مع التيار الإسلامى فى أثناء ثورة يناير. الفارق الثالثأن أية ثورة ناجحة لا يمكن أن تحقق أهدافها دون وجود إجماع وطنى واسع يشمل كافة التيارات السياسية الفاعلة والرئيسة والمحورية، لذا فإن أية معارضة لقرار سياسى لا يمكن أن تتحول إلى ثورة شعبية تنجح فى إسقاط النظام فى ظل وجود تأييد شعبى واسع لهذه السلطة من فصيل رئيس فى المجتمع بحجم وقوة التيار الإسلامى. الفارق الرابع أن التجاوزات التى حدثت الأيام القليلة الماضية، والتى تمثلت فى ممارسة بعض قوى المعارضة العنف، أو السماح بممارسته تحت غطاء الاحتجاجات والمظاهرات، يحرمها من التعاطف الشعبى، بل يدفع إلى التعاطف مع الطرف المعتدَى عليه. الفارق الخامس أن الشعب تجاوب مع ثورة يناير، وتبنّاها بقوة، بعد أن قدم فرصا كثيرة للنظام البائد لإضفاء الشرعية على نفسه بالسماح بانتخابات حرة ونزيهة، تضمن تعددية حقيقية، وتعتمد على انتخابات شفافة ونزيهة. بينما لا يجد الشعب سببًا للانسياق لتأييد احتجاجات سياسية من قوى المعارضة ضد نظام جاء بانتخابات شعبية حرة، طوت صفحة الماضى، وأتاحت الفرصة أمام تداول حقيقى للسلطة فى إطار التزام شعبى كامل بآليات العمل الديمقراطى التى لا تعرف التغيير إلا عبر صندوق الانتخابات. تداعيات وآثار وإذا استقرت الفروق الواسعة بين الشرعية التى يحظى بها النظام الحالى وانعدامها لدى النظام البائد؛ يتضح أنه لا مجال لحديث مكرور عن مقارنة غير صحيحة وغير منطقية بين نظامين: أحدهما فقد شرعيته بالتزوير والتزييف فثار عليه الشعب وخلعه، وآخر جاء بإرادة حرة بعد ثورة شعبية. وعلى الرغم من اليقين الذى يمليه المنطق، ويؤكده الواقع، وتدعمه الوقائع على الأرض، من عدم صلاحية الاحتمال أو توقع حدوثه، إلا أن حديث قوى المعارضة الواضح الأيام الماضية عن الرغبة فى إسقاط النظام يحتاج إلى وقفات جادة للنقاش حول تداعياته وآثاره. ولا مانع من طرح السؤال المستحيل، والتصدى للإجابة عنه، وبسط آثاره وتداعياته إذا نجحت محاولات الانقضاض على الشرعية على الرغم من تعارضها مع معطيات الواقع وثوابته. ومن أول الآثار التى يمكن توقعها إذا نجحوا فى إسقاط نظام شرعى غياب الشرعية القانونية والدستورية عن البلاد على مدار حقب طويلة، بتكرار سيناريو الخلع والإبعاد لأى رئيس جمهورية قادم يأتى عقب محاولة إسقاط شرعية حقيقية قائمة. وإذا وضعنا فى الاعتبار أن التيار الإسلامى هو الأقوى، فبإمكانه حال السطو على حقه فى الوصول إلى السلطة، وحجب الشرعية الشعبية التى نالها، أن يكرر الأمر مع أى رئيس قادم بالسعى لخلعه بالطريقة نفسها والآلية ذاتها التى أُقصى بها، إذا وجد أى اختلاف فى وجهات النظر، أو ظهور فرصة مواتية لصناعة أزمة مع النظام القادم. ربما يبدو فى الأفق سيناريوهات أشد خطرا على مستقبل مصر، وطبيعة الخيارات التى يمكن أن تتبناها القوى والتيارات السياسية فى المجتمع، وأهمها سقوط نظرية التنافس السياسى، وتنامى الرفض الشعبى للخيار الديمقراطى الذى يأتى من خلال صندوق الانتخابات. ونشير فى هذا الصدد إلى الجهود التى بذلتها جماعة الإخوان المسلمين ومعها كافة القيادات السياسية والشرعية فى التيار الإسلامى؛ لتثبيت القناعات الفكرية لدى قطاع واسع من الإسلاميين؛ بأن الصندوق هو الخيار الوحيد المشروع للوصول إلى الحكم، والتعبير عن الرأى، وتحقيق المشروع السياسى للتيار الإسلامى، وهو المجال الوحيد الذى يصلح لتحقيق هذا الهدف بعيدا عن العنف واستخدام السلاح. ولا يخفى فى هذا الإطار الجهود البالغة التى بُذلت على المستوى الفكرى والشرعى؛ لتثبيت هذا المعنى والوصول إلى هذه القناعات، التى جاءت ثورة يناير لتؤكدها، بعد أن باتت الشرعية القانونية والمشاركة السياسية الحقيقية متاحة للجميع، فترسخت مفاهيم الاحتكام إلى الصندوق لدى قطاع كبير من التيار الإسلامى بديلا عن استعمال العنف لتحقيق المشروع أو التعبير عن الرأى أو المشاركة فى رسم مستقبل البلاد. إلا أن حجب الشرعية ومحاولة إسقاطها يمكن أن يحدث خللا واضحا فى هذه القناعات، ويدفع البعض لإعادة التفكير فى التسليم بآليات الديمقراطية، والاحتكام إلى صندوق الانتخاب باعتباره الوسيلة الوحيدة المطروحة للوصول إلى الحكم والمشاركة السياسية. بل أكون صادقا إذا تحدثت عن حرج بالغ يمكن أن تتعرض له التيارات الإسلامية التى تبنت فكرة العمل السلمى أمام قواعدها التى لن تتجاوب كثيرا مع دعوات جديدة للاحتكام إلى الصندوق من جديد، بعد أن ثبت بالتجربة أن القوى المحلية والإقليمية والدولية غير جادة فى طرح آليات الديمقراطية طريقا وحيدا لتداول السلطة. ولا أكون مبالغا إذا قلت: إن الغالبية العظمى من التيار الإسلامى ستنحاز إلى فكرة الصدام ورفض الاستمرار فى التفاعل مع الخيار الديمقراطى، وهو ما يمكن أن يعيد إلى الأذهان حالة الارتباك الكبيرة فى المشهد المحلى والإقليمى والدولى إذا فشلت التجربة الديمقراطية. وفى هذه الحالة؛ فإن حصر تداعيات هذا الخلل الفكرى الناجم عن التغيرات المتوقعة، من انهيار الشرعية بعيدا عن الصندوق فى إطار محلى، لن يكون له نصيب من الواقع. فالتداعيات حينها ستكون أشد خطرا على الساحة العربية والإسلامية؛ بتصاعد حديث تيارات العنف من جديد، استنادا إلى فشل تجربة المشاركة السياسية للتيار الإسلامى عبر صناديق الانتخاب، حينها نكون أمام أزمة كبيرة وتداعيات خطيرة لن تجدى أمامها محاولات التيارات الإسلامية السلمية لتوفير قناعات بنبذ العنف، ولن تفلح حجتهم فى تطويقها كما نجحوا من قبل. إن أية محاولة للانقضاض على الشرعية أو السعى إلى إجهاض التجربة التى بدأت فى النجاح فى المحيط العربى لن تقتصر آثارها على محيط محلى، ولكنها ستتسع دائرتها، وتتراجع قدرة العقلاء على احتوائها والتعامل معها وحصارها.