سمو الغاية ونبل المقصد: وأذكرك يا أخى ببعض كلمات الإمام الشهيد رضى الله عنه الذى وصفه بعض هؤلاء الذين تألمت من هجومهم علينا بالباطل، وَصَفه للأسف فى صحيفة يومية بقوله: «إن حسن البنَّا رجل انتهازى» غفر الله له وسامحه، ماذا قال حسن البنَّا للإخوان فى مذكرات الدعوة والداعية ص234؟ «أيها الإخوان: قبل أن آخذ معكم فى حديث الدعوة، أحب أن أوجّه إليكم هذا السؤال: هل أنتم على استعداد بحقّ لتجاهدوا وليستريح الناس؟ وتزرعوا ليحصد الناس؟ وأخيرا لتموتوا وتحيا أمتكم؟ وهل أعددتم أنفسكم بحق؛ لتكونوا القربان الذى يرفع الله به هذه الأمة إلى مكانتها؟». ثم يقول رحمه الله ورضى عنه: «من العاملين من يعمل ابتغاء جاه أو مال أو وظيفة أو منصب أو عرض من أعراض الدنيا، ومنهم من يعمل ابتغاء ثواب الله ورضوانه فى الآخرة، ومنهم من سَمَت نفسه ورقّ حسه ودقّ شعوره، وتسامى عن مواطن المادة جميعا وانتقل إلى الملأ الأعلى -أى إلى درجة الإحسان- فأحب الخير للخير، وعمل الجميل لذاته، وشعر بأن ما يجد من حلاوة التوفيق لهذه المنزلة فيه الكفاء لما بذل من تضحيات فى سبيلها، وأدرك سرَّ قول العارف، حسبك من ثوابك على الطاعة أن رضيك مولاك لها أهلاً، بل سرّ قوله تعالى: {بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ (17)} (الحجرات). ثم يحدِّد رضى الله عنه موقف هذه الأصناف بدقة فيقول: «فإن كنتم من الصنف الأول فتخلو حالا عن هذا الميدان الكريم فما أفلح فيه نفعى قط، ويأبى الله أن يكون دينه القيم أحبولة لجرِّ المغانم الدنيوية الزائلة، وإن كنتم من الصنف الثانى: فاعملوا راشدين فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وستجزون بالدرهم دينارًا، وبالحسنة أضعافا مضاعفة {وإن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ويُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} (النساء)، وإن كنتم من الصنف الثالث فبخ بخ، وهنيئا لكم السموّ إلى ذلك العالم الملائكى والاتصال بهذا الملأ الروحانى، والدخول فى حيِّز قوله تعالى «ولَسَوْفَ يَرْضَى» (الليل: 21)». وفى هذا المقال يتحدث الإمام عن طبيعة الخصومة بيننا وبين الناس، فأشار إلى ما ينبغى أن نصغى إليه جيدًا، وأن نضعه فى حيز التنفيذ. فيقول: «وليست الخصومة بيننا وبين الناس خصومة أشياء ولا ذوات، ولكنها خصومة عقائد ومناهج، ويوم يعتنق أشدّ الناس خصومة لكم مبادئكم نغسل نحن جميعا عن قدميه، ونسلِّمه الراية مغتبطين فرحين؛ لأننا نعلم أن الخفى فى هذا السبيل خير من الظاهر، وتقرأ قوله تعالى: «فَإن تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَإخْوَانُكُمْ فِى الدِّينِ ونُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)» (التوبة)». ثم يقول: «يخطئ خطأ كبيرا من يتهمكم بخصومة حكومة من الحكومات الإسلامية، أو هيئة من الهيئات العامة، فإن موقف هذه الحكومات والهيئات لا يعدو أحد أمرين: إما عاملة بالإسلام وللإسلام فى حدود ظروفها وطاقتها، فنحن أول أعوانها، وأخلص أنصارها، وخير من يشدّ أزرها ويعينها على الإسلام، وإما متبرِّمة بالإسلام متآلبة عليه، فهل يسَع أى مسلم ولو كان هذا المتَّهم نفسه إلا أن يكون عليها لا لها؟ ويمتاز الإخوان المسلمون فى هذا عن الناس بأنهم يؤثرون النصيحة على التشهير والفضيحة، والسِّلم والحب على التصادم والحرب، وبيان الوضع والقول اللين على الغلظة والجفاء، ذلك تعليم الله لرسله «فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى» (طه: 44)- ثم يوجّه كلامه إلى الإخوان معترفًا بالتقصير». فيقول: «ويأخذ الناس عليكم فى دعوتكم، أنكم لا تحققون مناهجكم فى أنفسكم تحقيقًا تامًّا كاملاً، وأنا مع الناس فى أن هذا صحيح إلى حد كبير، فنحن لا زلنا عاجزين عن تحقيق منهاجنا تامًّا كاملاً فى أنفسنا، ولا أحب أن نعتذر بأن معظم هذا العجز يرجع إلى الظروف أكثر مما يرجع إلى الأشخاص، فإن المقام مقام طموح إلى الكمال لا دفاعًا عن النقص، ولكنى أحبّ أن أنبِّه إلى الفارق بين الإخوان وبين غيرهم فى هذا، فإن الإخوان يشعرون من أنفسهم بهذا ويعترفون، على حين يأخذ غيرهم فى الدعوى العريضة ويتستَّرون بخلابة الألفاظ، والإخوان مع هذا الاعتراف دائبون على طلب الكمال، حتى يأخذوا منه النَّصيب الذى قدَّره الله لهم». ثم يقول، مستطردًا فى ردِّ بعض الشبهات التى يثيرها البعض إلى اليوم: «ويأخذ بعض الناس عليكم كذلك أنكم هادئون لا ثائرون، مبطئون فى عصر السرعة، ويحملون ذلك منكم على خور فى العزم، وضعف فى الهمة، ومداجاة ومواربة، فذكِّروا هؤلاء بقول القائل»رُبّ عجلة تهب ريثًا»، وإن الله تبارك وتعالى حين علّم نبيه صلى الله عليه وسلم سبيل الدعوة إليه قال له «ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ» (النحل: 125)، ولم يقل له بالسرعة والجفوة والغلظة، ذلك أمر الله أنزله إليكم» مذكرات الدعوة والداعية بتصرف. ويكشف بوضوح كامل الحقائق الثابتة والفهم السديد للإخوان، فهل الكلام الذى سمعته، كلام رجل انتهازى؟ حسبنا الله ونعم الوكيل. وإنى أؤكد لك يا أخى أن أعداء هذا الحق سيمضون كما مضى غيرهم، وستبقى دعوة الإخوان، ويبقى الإخوان، لا لأنهم مُخلَّدون، ولكن لأن دعوتهم هى الحق الذى قامت عليه السماوات والأرض، ومن هنا فلن تزول ولن تفنى «ونُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأَرْضِ ونَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ونَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ (5) ونُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الأَرْضِ ونُرِى فِرْعَوْنَ وهَامَانَ وجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (5)» (القصص). وأختتم بدعاء لفضيلة الأستاذ المرشد عمر التلمسانى رحمه الله يقول فيه: «اللهم تقبل واغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم، اللهم وأفضِ على الإخوان المسلمين من الرضى والتوفيق حتى تجعلهم ممن قلت فيهم «الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِله عَاقِبَةُ الأُمُورِ (45)» (الحج)، اللهم إنك تعلم أنهم لم يُبيّتُوا شرًّا لأحد، ولم يتربّصوا بأحد دائرة، ولم يتآمروا للوصول إلى نفع ذاتى، أو عرض دنيوى، فتولَّهم يا ربِّ بالرعاية والعناية، وامنحهم من الصبر ما تمكنهم به من المضى فى الدعوة إليك مهما لاقوا من صعاب وأهوال، إن الجنة غالية الثمن وهم مؤمنون بكل ذلك كل الإيمان، فلن يفتّ فى عضدهم -بعونك- أى صادٍّ من الصادِّين، ولن يصرفهم –بتوفيقك- أى صارف من الصوارف، فكن اللهم عونًا لهم «إنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا» (الحج: 38)». وأصغَى محدِّثى باهتمام إلى نهاية الحديث، ثم قال الآن فهمت تماما، لماذا لا تشغلون أنفسكم بالرد على هؤلاء، وأى فلك يجب أن يعيش فيه المسلم؟ ثم أردف: وإننى الآن أطمع أن يفىء هؤلاء الذين يفترون الكذب، ودفعهم الهوى والحرص على المصالح الشخصية أو النفع الذاتى، أو المآرب الدنيوية إلى الافتراء.. أتمنى أن يفيئوا إلى الحق وأن يتوبوا إلى الله ويعودوا إلى الصواب، وأن يتقوا الله فى أقلامهم وأفكارهم، وأن يحذروا نقمته، قبل أن تقع عليهم وتحيط بهم. فرددت عليه الحمد لله الذى شرح صدرك وجعلك تدعو لهم بدل أن تدعو عليهم، وإنى من منطلق صفاء النفس، وحبِّ الخير والتسامح حتى مع الذين نالوا منا -أقول تأمينًا على كلامك- اللهم آمين. ................ فضيلة الشيخ/ محمد عبد الله الخطيب من علماء الأزهر الشريف والعضو السابق بمكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين