تماما كما كشر "العسكر" عن أنيابهم قبل اختفائهم المدهش من المشهد السياسى، تماما تكشر العلمانية المصرية عن أنيابها، وتصرخ بأعلى صوتها، وتشهر كل أسلحتها، لا ينامون ولا يتنفسون، نحّوا خلافاتهم جانبا، اصطفوا كجيش مقاتل، كأنهم على قلب رجل واحد، يخوضون معركة لا تحتاج إلى توعية لبعضهم البعض، اعتبروها معركة وجود، يشعرون بالتهديد كلما اقتربت سفينة الوطن من الرسو على شاطئ الهوية الصحيحة، وهم لا يختلفون مع "الإخوان" سياسيا، لكنهم حفروا قبورا، إما أن يدفنوا فيها "الإخوان"، أو سيدفنون أنفسهم انتحارا لظهور وانتصار "الإخوان"، وهم "كعمر سليمان" وأذنابه، يشعرون باقتراب انتهاء ظاهرتهم الصوتية الضوئية، لذا يحاربون كما حارب "عمر سليمان" فى أيامه الأخيرة، إذ ينشرون الشائعات والأكاذيب، ويطمسون الإنجازات، ويوزعون الخوف على الناس بالقسطاس. "الرئاسة" و"الإخوان" و"الحرية والعدالة" متهمون دائما، ومجرمون فى الأغلب، هذا هو محور نضالهم، وهو ذكى ويستحق التأمل، لأنهم يضعون خصومهم فى موقف الدفاع، والعامة تشتهى المعارك الملتهبة فتسمع وتتابع، لكن العامة أيضا لا يقفون مع المتهم، ويعتبرون الدفاع تبريرا، وأصدقاؤنا العلمانيون يمتطون جياد البطولة وهم يوجهون الاتهامات وكأنهم يدافعون عن حقوق الناس، وهو أيضا استغلال ذكى انتهازى لموقف من تحمل المسئولية فى ظروف صعبة . وهم أيضا يلعبون على قسمة صفوف الإسلاميين، ويتمنون أن يضموا "السلفيين" لصفهم، ويتركون الرد على ما كانوا يعتبرونه تطرفا سلفيا، ويؤجلون المواجهة معهم؛ رغم أن الاقتراحات السلفية تمثل "هولوكوست" للعلمانيين وأفكارهم، هذا فى الوقت الذى يركزون توجيه سهامهم "للإخوان"، و"للدستور" (كله)، لا تحدّث عن استقرار الوطن وأمنه واقتصاده، فسوف يردون إليك الكلمة بألف، والجملة ببرنامج، والهمسة بصحيفة... حينئذ ستطاردك اتهامات معلبة شهيرة؛ بأنك تتاجر بأوجاع الناس وتخادعهم باسم الاستقرار، وتدغدغ عواطفهم بالآمال الواهمة... يستحقون منا "تصفيقة مدوية"، كما نرفع لهم القبعة -الأمريكية طبعا- إعجابا بهذا الدأب على خدمة أفكارهم. "الإخوان" مطالبون بأن يستجيبوا لإخوانهم "السلفيين"؛ فلا يقبلون بإطلاق أى حرية فى "الدستور" إلا بتقييدها بجملة: "بما لا يخالف شرع الله"... كما عليهم أن يغيروا كلمة "مبادئ" إلى "أحكام"... وإلا فقد خذلوا إخوانهم السلفيين، وطأطئوا رءوسهم للعلمانيين، ونزلوا عن الحد الأدنى المقبول لدولة مسلمة كما أعلن البيان الغاضب للدعوة السلفية. ومن جهة أخرى فإن "الإخوان" مطالبون بأن يطلقوا "الحريات" بلا سقف تقويمى، وألا يتمسكوا بضبط مفهوم المادة الثانية (كما نصت على ذلك الأحكام العامة بالدستور)، وذلك حتى تصبح المفاهيم فضفاضة، يخرجها من سياقها من أراد، ويضعها على الجادة من أراد، يريد العلمانيون إسلاما يستوعب كل التأويلات والتفسيرات، لأنهم لما فشلوا فى ترويج رفض الإسلام، يعملون على تفريغه من محتواه، ويريدون من "الإخوان" أن يعطوا وعدا بعدم مراجعة القوانين العلمانية السابقة، وألا يتحفظوا على أى اتفاقية دولية قد تمس مبادئ الشريعة الإسلامية، رغم أن النظام البائد نفسه كان يتحفظ على ما يخالف الشرع؛ خوفا من الغضبة الشعبية، بل وعليهم أن يستجيبوا لحقوق (الأقليات)!... حتى ولو أرادوا الانفصال، كما أرادت "منال الطيبى" فى حالة النوبة مثلا!. هذا وأمثاله ما يريده العلمانيون وإلا أصبح "الإخوان" خائنين للوسطية التى نادوا بها وزعموا أنهم أهلها!!. هذا المشهد الدقيق؛ بين مطرقة "العلمانية" وسندان "السلفية" يستغله العلمانيون أبشع استغلال؛ لأنهم يعلمون أن الموافقة على "الدستور" وإجراء الانتخابات يعنيان قدوم "مجلس تشريعى" أغلبيته إخوانية، وسيكون بالتالى ظهيرا للرئاسة، ومتناغما مع "مشروع النهضة"، حينئذ تتشكل سلطتان -تنفيذية وتشريعية- متوافقتان يمكنهما السير دون عراقيل ضخمة فى طريق الإنجازات الملموسة. والمشكل هنا أن أصدقاءنا العلمانيين بجميع فصائلهم يتحسبون من هذه اللحظة التى ستجعل منهم أثرا تاريخيا يكتفى بالفرجة على المشهد وهو يتطور، بينما هم يتحدثون عنه كالمعلق الرياضى... ويا ليتهم يتحلون (بروحه) الرياضية... لكنهم مع الأسف، تلبستهم (روح) "عمر سليمان"، و(أخلاقه) فى الصراع. لقد انهزم "عمر سليمان" وأذنابه وحواريوه، ومات فى "مصر" قبل أن يموت فى "أمريكا"، وسينهزم كل من اقتدى به وحذا حذوه وسلك طريقه. قد ينخدع الشعب حينا بفعل الأكاذيب وتدهور الأوضاع، لكنه حين يستفيق ويرى حجم الخديعة والكذب من النخبة الشبقة لمناصب لا تستحقها، أو لتجار الشعارات، أو ثوار الفضائيات.. يومئذ سيكون انتقامه شديدا، حينها سيسقطهم من نظره ويلغيهم من حساباته، ويتركهم يتلهّوْن بميكروفونات الإذاعة والتليفزيون، بينما يلتف هو حول قيادته، ويضع يده معها فى العمل. إن مصر تعيش لحظة فرز ثالثة، وذلك بعد (لحظة الثورة)، ولحظة (انتخابات الرئاسة)، والآن (لحظة بناء الدولة). وما هى إلا شهور قليلة وسيعلم الجميع من الذى يسعى لبناء الدولة ولو ضحى بعرضه وتحمل الأكاذيب، ومن الذى يضحى بالدولة وبالشعب وبالثورة وشهدائها من أجل مغانم سال لها لعاب الدنيويين ممن وطّنوا أنفسهم على خوض معارك الأثرة والأنانية كأنهم مخلدون. لقد عاش "الإخوان" كثيرا مرارات التشويه، وسمعوا بآذانهم السب والشتم ممن تأثروا بأبواق الكذب والختل والخداع، ولم يردهم ذلك عن خدمة أهاليهم والدفاع عن مصالح الضعفاء منهم... ولم يزدهم الإعنات إلا إصرارا وعملا... فمرحبا بمعركة جديدة لا يملك خصوم "الإخوان" فيها إلا هذه الأكاذيب والافتراءات، بينما يمتلك "الإخوان" أمامهم قلوبا صلبة، وخطى ثابتة، وفهما عميقا للمشهد، وإحساسا وثيقا بأنّات المحتاجين والعجزة من أبناء الوطن. يخطئ شباب "الإخوان" لو أقعدتهم الدعاية السوداء عن القيام بدورهم، أو أن يرمى بهم الحزن إلى ترك خدمة أهليهم، أو أن يتطرق إليهم اليأس من إصلاح الناس، وعليهم أن يتذكروا دائما أنهم موجودون الآن لتقديم نموذج العطاء بلا حساب، فى وقت تكالبت فيه النفوس على النهب، ويخطئون لو تكاسلوا حتى عن خدمة مَن ينتقدهم، فالعمل الدءوب هو وحده الرد، وهو وحده الذى يظهر حقيقة قلوبكم المحبة للخير... وللوطن وأبنائه.