بينما أنا فى طريقى لرمى الجمرات لمحت العلم المصرى، فأحسست بشوق لوطنى سرعان ما أعقبه حزن عميق لما رأيت العلم يسير خلفه رجلان فقط، بينما بقية المجموعة التى خرجت معنا من مقر الإقامة قد تشتَّتت، وعلى النقيض من ذلك ترى مجموعات الحجاج الأخرى من جنسيات عديدة تسير متلاحمة. وتذكرت زيارتى مع بعض المصريين أحد الإخوان السعوديين أثناء مرضه، فرحب بنا وأعرب عن حبه لمصر وأهلها، وأخبرنا أنه عمل مع الكشافة لإرشاد الحجاج التائهين 20 عامًا، وتألَّم حين قال: إن النصيب الأكبر من هؤلاء كان من المصريين، بينما لم يأتِ إليهم تائه ماليزى واحد طوال تلك الفترة. وتأكدت من قصة الكشَّاف السعودى حين رأيت كثيرًا من المصريين التائهين فى الحرم وفى بقية المشاعر، وسمعت عن قصص مؤثرة لهؤلاء المساكين، هذا بخلاف السلوكيات المشينة كالتهافت على الأطعمة والمشروبات التى تُوزَّع، وارتفاع الصوت بغير الذكر والدعاء، وبالغيبة.. إلخ. ولا يقتصر الأمر على هذا، بل يتعداه إلى ما هو أخطر منه إذ يظلُّ كثير من المصريين الطيبين يدَّخرون نقودهم سنين طويلة (تحويشة العمر) من أجل الذهاب للحج أو العمرة، ثم يذهبون إلى هناك دون معرفة بالأركان والواجبات والسنن؛ مما قد يؤدى إلى بطلان حجهم أو عمرتهم أو وجوب ذبح الهدى وهو ما قد يستصعبه أو لا يقدر عليه بعضهم. وفى اعتقادى أن مشاكل الجهل بالمناسك والتيه وعدم الانتظام فى مجموعات مترابطة إنما هى دلائل وإشارات على مرض مزمن خطير قد أصاب المصريين نتيجة الاستبداد الذى جثم على صدورنا 60 عامًا، فنشر الجهل والتخلف والأنانية، وحارب الوعى والترابط والعمل الجماعى بروح الفريق. ومما يؤكد صحة هذا الاعتقاد أن الدولتين الإسلاميتين الأرقى اقتصادًا والأعرق ديمقراطية، وهما تركيا وماليزيا، ينعكس رقيهما على سلوك حجاجهما المميز والفريد الذى يلحظه كل من ذهب للحج أو العمرة. يسير الحجاج والمعتمرون الأتراك والماليزيون فى مجموعات متراصة، ومع كل مجموعة مطوِّف يقضى معهم المناسك كاملة، ويرددون خلفه الأدعية المأثورة، ويرتدى جميع الرجال ملابس موحَّدة، وكذلك النساء، بالإضافة إلى علامة خاصة لكل مجموعة كعلم أو وردة على الرأس أو قبعة، وأثناء الطواف يحيط الرجال بنسائهم من كل الجهات، فلا يستطيع شخص غريب عن المجموعة أن يدخل وسطهم أو يفرق بينهم. ومعلق فى رقبة كل حاج من هؤلاء بطاقة بها جميع البيانات والهواتف والفندق، وإذا أرادوا العودة إلى السكن تجد طابورًا طويلًا منتظمًا يمتد من الحرم إلى موقف الحافلات، ولا يحاول أحدهم مهما كان سنُّه أو تعبه أن يتخطى الواقفين قبله. يوم أن يذهب الحجاج إلى الحرم فيجدون المصريين وقد تشابه سلوكهم مع سلوك الأتراك والماليزيين هناك، سيعلم الجميع أن الشعب المصرى قد عاد إلى تحضره ورقيه من جديد وأنه آخذ فى بناء نهضته الحديثة. ولن يتحقق هذا الحلم إلا بجهد جهيد، كان الله فى عون الرئيس مرسى وإخوانه وكل محبى هذا الوطن العزيز وقوَّاهم على تغيير التركة البائسة التى تحملوها قبل الأوان. ويبدأ ذلك التغيير بعدم السماح للحجاج والمعتمرين بالحصول على تأشيرات قبل اجتياز دورة تدريبية مكثفة كتلك التى تنظمها ماليزيا لكل راغب فى الحج عمليًّا ونظريًّا بدءًا من طريقة لبس الإحرام والطواف حول مجسم الكعبة، بالإضافة إلى بقية المناسك، وأماكن الإقامة والطرق للحرم والمشاعر، وانتهاء بالآداب العامة.