توسعت رقعة العداوة اليوم بين الأجيال الجديدة من المسلمين والصهاينة في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، ومثلت "الطفلة الكبيرة" عهد التميمي دليلا واضحة على تجذر هذه العداوة حتى في نفوس الأطفال قبل الكبار، وكان ذلك دليلا مخيفًا للصهاينة على أن جسد الأمة يتلقى دماء جديدة طاهرة غير ملوثة بأسلو وكامب ديفيد وأخواتهما. وانتشرت صورة للطفلة البطلة "عهد التميمي" وهى تقف شامخة كشجرة زيتون سامقة أمام إحدى محاكم المحتل، وكأن الأماكن أوراقها قد تداخلت واختلطت، وكأن عهد التميمي تحولت إلى بنت من بنات الشرعية في مصر الرافضات للانقلاب، وكأن محاكم الاحتلال الصهيوني هى ذاتها محاكم الشامخ العسكري في مصر. وتعود قصة أرض فلسطينالمحتلة إلى ما قبل "عهد التميمي" بأكثر من 100 سنة، والحقيقة أن الأوروبيين الذين كرهوا اليهود في الماضي وارتكبوا مذابح ضدهم من حين لآخر أرادوا التخلص من اليهود، وقاموا مع الصهاينة بالاستيلاء على الأراضي العربية في فلسطين وأعطوها إلى اليهود لإقامة كيان "إسرائيل"، وفي سبيل تحقيق ذلك طرد العرب الفلسطينيون من منازلهم وأرضهم ومنذ ذلك الحين يعيش هؤلاء في معسكرات اللاجئين المؤقتة في لبنان والأردن. المتهم صاحب الأرض! كانت البداية الحقيقية من قبل وقفة وشموخ "عهد التميمي" بسنوات طويلة، مع فكرة أرسلها تسيون لوريا، الموظف بالدائرة التعليمية التابعة للوكالة اليهودية، إلى "الصندوق القومي اليهودي للأراضي"، وفيها اقترح لوريا بضرورة تأسيس سجل متكامل للأراضي الفلسطينية، تمهيدا لفرصة مستقبلية، رآها لوريا محتمة، ستقع فيها هذه الأراضي تحت سلطة الكيان المحتل المتوقع إقامته في فلسطين وقتها. لم يتوقف قادة الحركة الصهيونية عند الإعجاب بالفكرة فقط، بل لاقت هوى كبيرا في نفس مدير دائرة الاستيطان حينها، يوسف فايتس، فبنى عليها أسس "المشروع القومي" الصهيوني لدراسة الأراضي الفلسطينية عام 1940، وأنهاها بالاستيلاء الكامل عليها بعد نكبة 1948. وبحلول النكبة وانتهائها ثم إعلان قيام كيان "إسرائيل" عام 1948، كانت عناصر الهاجاناه المشاركة في عملية دراسة الأراضي الفلسطينية على علم بالتفاصيل الأكثر دقة لتلك الأراضي، وما يتعلق بإنتاجيتها وقيمتها وأصحابها أنفسهم، لذا لم يكن من الصعب بحال أن يكون الطرد الممنهج للفلسطينيين. ومنذ أواخر 1946 ووصولا إلى النكبة وما بعدها، قد صاحبه توطين اليهود في تلك الأراضي بمساعدة من ميليشيات الهاجاناه الصهيونية الإرهابية، أو ما سيُعرف ب "الجيش الإسرائيلي" فيما بعد، واستولى قادتهم على الأراضي ونهبوا ممتلكاتها. كان هذا داعيا للحكومة الصهيونية للتصرف بسرعة وحزم إزاء عمليات استيلاء مقاتليها، وإعلان الممتلكات والأراضي الفلسطينية المتروكة خاضعة لسلطة حكومة الاحتلال المؤقتة، ولها الحق في التصرف بها وفقا لما يراه رئيس وزراء العدو، أو من يُعينه للتصرف بشأنها. لم يكن القرار السابق في حد ذاته كافيا لوقف أعمال النهب والتخريب في الأراضي المحتلة، كما لم يكن "قانون أملاك الغائبين" الصادر عام 1950، والذي يضع الأراضي الفلسطينية تحت سلطة "القيّم" أو الوصي عليها، وهو وزير المالية الصهيوني حينها أو أحد الموظفين التابعين له، سوى خطوة أولى في طريق منع أجداد "عهد التميمي" من العودة إلى أراضيهم المتروكة خلال الحرب، إذ إن القانون يعتبر الممتلكات والأراضي الواقعة مباشرة تحت سلطة جنود الاحتلال، أو التي تركها أصحابها أو جزء من أصحابها، هي "أراضي متروكة" وتخضع مباشرة لسلطة القيّم، أي تحت تصرف "تل أبيب" بشكل كامل. عهد بألف رجل! وفي ظل موجة الاحتجاج التي ضربت الأراضي الفلسطينيةالمحتلة بعد تآمر وخسة وصهيونية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حينما منح القدسالمحتلة عاصمة ل «إسرائيل»، تعرّف العالم إلى أيقونات فلسطينية جديدة وسط عدد من الشهداء والجرحى. أيقونات كرّسها روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، وأبدعت في تجسيدها فنياً مجموعة الفنانين والمصممين البصريين، لتبقى خالدة في الذاكرة العربية. من بين هذه الأيقونات، عهد التميمي -16 عاماً- التي عادت إلى الواجهة مجدداً، بعدما سطع نجمها عام 2012 جرّاء تحدّيها للجنود الصهاينة في قريتها «النبي صالح» بعدما اعتدوا عليها وعلى والداتها وشقيقتها في تظاهرة مناهضة للاستيطان. عهد التميمي، الفتاة الشقراء ذات العينين الملونتين اللتين تتحديان بشراسة بطش الاحتلال وقمعه وغطرسته، صارت حديث الناس اليوم إثر اعتقالها بُعيد محاولة طردها من بيتها بعد مواجهات حدثت هناك يوم الجمعة الماضية بين الاحتلال وأبناء البلدة. ومع قرار الصهاينة بتمديد مدّة اعتقالها في سجن «عوفر»، ظهرت سلسلة جديدة من الصور من داخل محكمة الاحتلال، تظهر كبرياء التميمي وعزمها المعهودين. استطاعت الصبية أن تمثل كوّة الأمل كما عبّر العديد من الناشطين على شبكات التواصل الاجتماعي، وسط ظلام الاحتلال الصهيوني وتخاذل العالم والعرب على حدّ سواء، بل واستطاعت "عهد التميمي" أن تقول بلسان الحال للحرائر في مصر من النساء والفتيات "لستن وحدكن اللاتي تواجهن الموت في سبيل نصرة الحق.. وما أشبه القدس بالقاهرة.. وما أشبة السيسي بنتياهو.. وما أشبه محاكم الاحتلال بمحاكم الانقلاب!".