بعد أن هددنى الضابط النقيب، بسبب فشلى المتتالى فى التوفيق فى ضرب النار، بإصابتى إصابة خطيرة، هدانى الله عز وجل، أن أُحادث الضابط حديثا متعمقا، بدا أنه كان غريبا على مسامعه، وهداه الله أن يحسن الإنصات إلىّ، حيث قلت له: كل ميسر لما خلق له، ولو ظللت مزيدا من الأسابيع والشهور، فلن أفلح أبدا فى التعلم العسكرى، حيث بينى وبينه حجاب، لكن الحياة العسكرية لا تقف عند حد بتعلم ما يتصل بالسلاح الساخن، فقد كان هناك فى الجيش آلاف الجنود الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، يمكن أن أساهم فى محو أميتهم، وهناك التعبئة النفسية، والروح المعنوية، فيمكنكم الاستفادة منى إلى حد كبير فى مثل هذه الجوانب. وقرأت على وجه الرجل علامات تقدير وتفهم، ووعدنى بتقديمى إلى قائد "الفوج" للاستفادة بى، ثم يشاء العلى القدير، أن تصيب رصاصتى الهدف بعد هذا، لا عن دقة اكتسبتها، لكنها صدفة، حيث بالفعل لم أكن أحسن التصويب!! فى تلك الفترة من السنة الثانية فى الستينيات، ظهر ما عُرف باسم (الميثاق)، باعتباره محتويا على مجموعة الأفكار والمبادئ والقواعد التى يقوم عليها النظام، ووُصف بأنه "إنجيل الثورة"، حيث سرت "هوجة" ضخمة فى طول البلاد وعرضها لشرحه وتفسيره. ثم يصل تيار تسييس المؤسسة العسكرية، أن تُنظم مسابقة بين وحدات الجيش لمن يثبت أنه أكثر فهما ووعيا بالميثاق. وعندما قدمنى الضابط النقيب إلى قائد "الفوج" بدوت أمامهم "فرخة بكشك"، بالنسبة للموقف الجديد، وذلك بعد توجيه بعض الأسئلة الأولية، فضمونى لمجموعة بقيادة أحد الضابط للاستعداد للدخول فى المسابقة. ويشاء العلى القدير أن تكون إجاباتى وحواراتى سببا فى أن تفوز وحدتى العسكرية بالمركز الأول، وكان من المفروض أن يحضر المشير عبد الحكيم عامر بنفسه لشهود الموقف وتسليم الجائزة للفائز، لكن حدث أن هرب طيار أردنى بطائرته لاجئا إلى مصر، حيث كان الأردن قد اصطف إلى جانب السعودية ضد مصر، بسبب حرب اليمن، فاعتذر المشير، حيث كان فى استقبال الطائر اللاجئ، وأناب عنه الفريق محمد فوزى الذى كان مديرا للكلية الحربية فى ذلك الوقت. كانت جائزتى: كاميرا تصوير، والترقية من جندى نفر إلى "عريف" مرة واحدة، فضلا عن إجازة مدة خمسة عشر يوما. وليصدقنى القارئ إذا قلت له إن فرحتى بالترقى إلى عريف، فاقت فرحتى فيما بعد بالدكتوراه، فلا أحد يعرف قيمة هذه النقلة النوعية إلا من كابدها فى التجنيد. كذلك فإن حصولى على إجازة أسبوعين، كانت من أثمن ما يمكن، حيث كنت أصارع للتمكن للتسجيل لدرجة الماجستير بغير جدوى، لانخراطى اليومى فى الخدمة العسكرية، ومن ثم عجزى عن الحضور إلى الكلية لمتابعة التسجيل. عشرات القصص والروايات، يمكن أن أملأ بها صفحات طويلة، كلها تسير فى مجرى ضعف الإعداد العسكرى من الداخل، فضلا عن السياقات المجتمعية المؤسف كثيرها، مما كان طبيعيا معه أن يحدث ما حدث من هزيمة عام 1967. فقد تم الإفراج عن الجماعات الماركسية عام 1964، ليخرج الماركسيون من السجون إلى كثير من مواقع القيادة والتسيير فى أنحاء مختلفة فى الدولة، خاصة ما يتصل بالشئون الثقافية، مما ألقى بظلاله على المشهد الثقافى كله، طوال سنين تالية. وعندما أسمع وأقرأ منذ فترة عن هجوم ضار على الإسلاميين عامة والإخوان خاصة بأنهم يسعون إلى الاستحواز على كافة المواقع، أشعر بقدر غير قليل من الحسرة والتعجب، ذلك أننى كنت متابعا جيدا لحال الثقافة منذ الإفراج عن الماركسيين، من حيث حرصهم الشديد على ألا يفتحوا الباب إلا من شاركهم، واستحواذهم على أهم المواقع الثقافية. لم أكن مع منع الماركسيين من قبل فى أن يعبروا عن آرائهم، وكنت أسعد، بل أستمتع ببعض الكتابات، لكننى لاحظت أنهم كانوا يفعلون ما يعيبون به اليوم على الإخوان، وأذكر أننى حاولت عدة مرات أن أنشر مقالا فى مجلة الطليعة التى رأس تحريرها لطفى الخولى وكانت منبرا ماركسيا تحت مظلة جريدة الأهرام، وفشلت. وكذلك بالنسبة لمجلة كانت تصدر باسم (الكاتب) رأس تحريرها أحمد عباس صالح، وكانت تحت رعاية الضابط كمال رفعت، فعلى الرغم من أنى وثقت علاقتى بأحد مسئوليها (عبد الجليل حسن)، وكثيرا ما كنت أزورهم فى مقرهم بالقرب من شارع قصر العينى، وأنا خارج من كلية التربية التى كانت تبعد أمتارا معدودة، لم أستطع أن أفلح فى اختراق جدار النشر إلا بعد سنتين على وجه التقريب!! واتسق هذا مع ما سبق أن حدث من غزو عسكرى لمواقع عديدة فى مفاصل الدولة، حتى الساحة الفنية من مسرح وإذاعة وسينما، ولم لا؟ لقد كان مجلس قيادة الثورة يضم عددا محدودا، وهناك عشرات، وربما مئات من الضباط يتساءلون بينهم وبين أنفسهم: لماذا يقتصر الأمر على اثنى عشر ضابطا (وهم مجلس قيادة الثورة)؟ فكان الانتشار المخيف لتشغيل العسكريين. وإذا كان هذا قد أفاد فى بعض المواقع، وهى قليلة، فقد أفسد فى مواقف أخرى، لعل أبرزها ما أصبحنا نعيشه حتى اليوم، وبعد ستين عاما من سيطرة عقيدة لدى العسكر أن مصر قد أصبحت ملكية خاصة لهم، أو أننا لم نبلغ سن الرشد بعد، ومن ثم يجب أن تستمر وصايتهم. ولعل من مظاهر الفساد، أن يقع القائد العام للقوات المسلحة نفسه -عبد الحكيم عامر- فى غرام ممثلة إغراء شهيرة فيتزوجها سرا، ويحدث الأمر نفسه بالنسبة لضابط كبير من شلته (على شفيق) الذى تزوج المطربة "مها صبرى"، ومن قبلهما، وفى شهور الثورة الأولى نجح وجيه أباظة فى الاستيلاء على قلب "ليلى مراد" وتزوجها أيضا سرا. هذا ما تواتر وعُرف، وما خفى كان أعظم! ولا ندرى أهى مصادفة أم لا، بعد الإفراج عن الماركسيين عام 1964، أن يتم الإعلان عما سمى مؤامرة الإخوان المسلمين ضد النظام بعد عام واحد، أى عام 1965، على لسان عبد الناصر أثناء زيارته لموسكو؟! ليس لدى أدلة على صدق هذا الذى قيل أم زيفه، لكن ما أفزعنى، وأفزع كثيرين، أن يتم إعدام مفكر بحجم سيد قطب، حيث كان بالإمكان الحكم عليه بالسجن، بدلا من أن يحجب هذا النبع غير العادى للفكر الإسلامى. وكان يثير التعجب والاستفهام أيضا أن تختص الشرطة العسكرية بمتابعة كل من تصوروه من الإخوان فى هذه الفترة. وانفتحت ماسورة الإعلام "المدجن" لهجوم ضار على الإخوان، حتى وصل الأمر بإحدى الصحف إلى أن تحدث القارئ عن أنه كان يمكن أن يكون سائرا على كوبرى قصر النيل، فماذا كان يمكن أن يحدث له ولغيره لو نجحت خطة الإخوان فى تدمير الكبارى والجسور، فضلا عن خطة لاغتيال كبار المطربين والمطربات، مثل عبد الوهاب وأم كلثوم، إلى غير هذا وذاك من ترهات، ما كان يجوز أن تُعامل عقول المصريين بهذه الصورة الكاذبة الساذجة!! ومما أظهر لى كذب كثير من التهم، أن وجدت اسما منشورا لعامل من بلدتى المرج، اتُّهم بأنه كان مسئولا عن تفجير سنترال جسر السويس فى مصر الجديدة، وأنا كنت أعرف هذا الرجل، الذى كان "أغلب من الغلب"، عامل بسيط للغاية، لتبييض جدران القرية –لمن يطلب- والتى هى من الطوب اللبن، بماء الجير، بفرشاة يد كبيرة، يسير حافى القدمين، لا يقرأ ولا يكتب!!. [email protected]