يقطع صوت الرصاص الصمت ويغطي غبار صواريخ عملية "عناقيد الغضب" التي شنها الوحش الصهيوني رائحة الخوف، فتلوذ الصغيرة ذات الضفائر اللبنانية في قرية "قانا" بحضن والدتها وتظل ترتجف، تكاد تقضي فزعًا.. على الرغم من أنها قابضة على منديل أمها المصبوغ ناحية الكبد بلون الموت، لونٌ بالكاد رأته من قبل، حين همست لها شقاوتها أن تلهو بسكين صغيرة، وكانت الأم يومها هي المسعف، كان ذلك قبل أعوام خمسة، وكانت لم تصل الطفلة بعد لسنتها الثالثة. اليوم، وبعد مرور 21 هي لا تعرف عن إخوتها الثلاثة شيئًا، ولا عن والدها الذي عاد من منتصف الطريق، عندما فروا ليجلب النقود التي نسيَها في البيت، سمعت عن إخوتها أنهم ماتوا ليلة 18 إبريل 1996، في قصف مركز قيادة "فيجي" التابع للأمم المتحدة، لم تقتنع بذلك فجثامين الشهداء ال106 التي رأتها في مذبحة "قانا الأولى" لا تشبه وجوه إخوتها بتاتًا، نادتهم مرارًا بأعلى صوتها وبحثت عنهم في خيم النازحين دون جدوى.. أرادت إخبارهم -وهم الذين يكبرونها سنًا- بأن على منديل أمهم لونًا غريبًا، لا يشبه لون الجثث ولا لون جرح "السكين"، لون يخشاه العدو الصهيوني ويطلق عليه "المقاومة".. ورائحته تشبه المسك! بداية الجُرح بعد أن تهدمت منازلهم وفقدوا متاعهم وذويهم، لجأ سكان قرية قانا جنوبلبنان لمركز قيادة فيجي التابع للأمم المتحدة، في ليلة 18 أبريل 1996، للاحتماء فيه من نيران وصواريخ عملية "عناقيد الغضب" التي شنها كيان العدو الصهيوني على لبنان، قبل عدة أيام من ذلك التاريخ في هذا الوقت، إلا أنهم فور استقرارهم بالمقر الذي ظنوا أنهم سيجدوا فيه الأمن والأمان، إنهال عليهم قصف كيان العدو الصهيوني الغادر ليروح ضحيته 106 شهداء من المدنيين فيما أصيب آخرين بجروح، ويسجل ذلك اليوم في التاريخ بدمائهم ب"مجزرة قانا"، التي واحدة من أكبر المجازر التي ارتكبها "الكيان" وهزت العالم أجمع. في بداية إبريل 1996، خرق "الكيان" اتفاق "مايو 1993"، وبدأت عملية "عناقيد الغضب" لضرب المدنيين بدلا من ضرب قواعد مليشيات حزب الله الشيعي الموالي لإيران، في حين كان ينص الاتفاق بين لبنان وحكومة الكيان الصهيوني على أن أي اعتداء على المدنيين لدى أي طرف، يسمح للطرف الآخر بالرد فورا وبالوسائل التي يراها مناسبة، ومن ثم شن "الكيان" عدوانا عسكريا ضاريا على لبنان، في الفترة ما بين 11 إبريل و27 إبريل 1996، راح ضحيته العديدين وتهدمت العديد من البلدات بينها العاصمة بيروت، دون أن تمس صواريخ الكيان شعرة في رأس عناصر "حزب الله"! وعقب الكثير من العمليات الدموية الضارية وكثافة القصف، فرّ مئات المدنين من ذلك إلى مركز تابع لقوات الأممالمتحدة بقرية قانا ظنا منهم أنها ستحميهم، لكونه مركزا أمميا محميا بموجب القوانين والمواثيق والأعراف الدولية، إلا أنه في ظهر ذلك اليوم وجعت تل أبيب صواريخها إلى المقر ليستشهد 106 مدنيين، ويصاب نحو 150 شخصا بجروح وعاهات وإصابات متفاوتة الخطورة. "تطبيع الجنازات" العربي الإسرائيلي على شرف سفاح "قانا" نعتذر عن الخطأ! قرية قانا الواقعة في جنوبلبنان، تضم أحياء كثيرة منها "حارة الفوقا، حارة التحتا، حي السيدة صالحة، حي البركة، حي المحافر، حي الجامع الشرقي، حارة مار يوسف، حي الحافور، حي الوارداني، حي الخشنة، حي الماصية، حي الحمارة، الخريبة"، ويوجد فيها مقر لقوات الطوارئ الدولية الأممية "يونيفيل". وكالعادة وذرًا للرماد في عيون المسلمين والعرب فتحت الأممالمتحدة تحقيقا "صوريًا" في موقع المجزرة، وتم رفعه إلى الأمين العام للأمم المتحدة الراحل "بطرس بطرس غالي"، ونص على "استحالة أن يكون قصف القاعدة التابعة لليونيفيل في قانا نتيجة خطأ تقني أو إجرائي فادح.. كما ادعى ذلك مسئولون في جيش الكيان الصهيوني، وأنه يوجد أدلة مهمة على انفجار قذائف مدفعية، مزودة بصواعق تفجير فعند الاقتراب من الهدف، فوق المجمع مباشرة، وتغطيتها لجزء كبير من مساحته، وعلى الرغم من أن عدد القذائف لا يمكن أن يحدد بالضبط، فإن الأدلة المتوفرة تشير إلى أن ثماني قذائف من هذا النوع انفجرت فوق المجمع ولم تنفجر سوى قذيفة واحدة خارجه. كما أجرت عدة منظمات عالمية مهتمة بحقوق الإنسان تحقيقات حول المجزرة، وكانت النتائج أن القصف كان متعمدا وعلى معرفة وعلم بوجود المدنيين في مقر اليونيفيل وليس نتيجة الخطأ التقني الذي ادعاه كيان العدو الصهيوني، ولكن وزارة خارجية الكيان رفضت تلك التقارير، وساندتها أمريكا برئاسة الرئيس الأسبق بيل كلينتون، واعتبروا أن هذه المجزرة كانت خطأ من نوع الأخطاء التي تحدث في الحروب. إدانة جوفاء! وفي 25 إبريل 1996، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن كيان العدو الصهيوني انتهك القوانين الدولية المتعلقة بحماية المدنيين خلال الحرب، واجتمع أعضاء مجلس الأمن في كسل معتاد وعلى غير عجل يحتسون الشاي المعطر وبعضا من قطع الكرواسون والساليزون الساخن، وبتراخٍ معهود مع مجازر المسلمين قاموا بالتصويت الأجوف على قرار يدين كيان العدو الصهيوني، ولم تفاجئ الولاياتالمتحدةالأمريكية أحدا عندما أجهضت القرار باستخدام حق النقض "الفيتو"، فتلك هي اللعبة المتفق عليها منذ زرع الغرب الكيان الصهيوني في أحشاء العرب! المفارقة أن مليشيات حزب الله الشيعية التي تسببت في إشعال المجزرة، لم يصبها أي سوء وتعمد الكيان عدم قصف قواعدها العسكرية أو عناصرها الإرهابية، في لغز كبير اتضح اليوم في مجازر سوريا أنهم أصابع تحركها إيران مع روسيا.. وفي الخلفية مصالح كيان العدو، وبينما تقوم مليشيا حزب الله بالمجازر ضد المدنيين في سوريا لصالح نظام بشار الأسد، لم تسلم "قانا" من ضربات وحشية أخرى، حيث تعرضت في 30 يوليو 2006 لمجزرة أخرى من جيش الكيان الصهيوني، خلفت 57 شهيدًا على الأقل أكثرهم من الأطفال، في مذبحة عرفت ب"مجزرة قانا الثانية".