فى الليلة الظلماء يفتقد البدر، وفى سنوات الشدة والبلاء يلتجأ العوام إلى الركن الصلد والجدار الصامد من أجل الاحتماء من النكبات والاستعانة به على نوائب حكم الطواغيت والتظلل بحكمته فى استقراء المشهد والتعامل مع المستجدات واستشراف المستقبل، من أجل تجاوز النفق المظلم والعبور على أطلال الأزمة بأقل الخسائر. وفى واحدة من أحلك اللحظات التى مرت على جماعة الإخوان المسلمين الضاربة فى جذور التاريخ، فى مسلسل نضالها البطولي ضد طواغيت العسكر وأعداء الديمقراطية ومحاولات انقاذ الأمة من عثرتها، برز اسم المرشد الرباني الأستاذ عمر التلمساني ليقود دفة الجماعة بصلابة وجلد فى خضم أنواء الجنرالات المتلاطمة ويمنح تيارات الإسلام السياسي بمختلف توجهتها قبلة الحياة نحو مواصلة العمل فى الشارع والحفاظ على قوامها من التشتت والتفكك والارتباك.
ودون فلسفة أو مقدمات نارية –يستحقها بكل تأكيد- إلا أن اسم المرشد الرباني يغنيك عن كثير من الكلمات أو الافتتاحيات الملحمية، خاصة وأن صداه يتردد فى داخلك بكل ما يحمل رائحة الحكمة وعبق المقاومة وصدي النضال، ويداخلك شعورا حقيقيا أنه تفلت من عصر الصحابة أو صنع على عين كبار التابعين، فالرجل الذى يعود إلى أصول جزائرية، سخر حياته لله فخلد الله اسمه برجال صدقوا ما عهدوا الله عليه وبقي وقعه يبث الرعب فى نفوس العسكر.
واللافت أن ترى الشباب المسلم يتغني بنماذج ثورية ويسير علي خطي جيفارا أو يقتبس من أقوال لوثر كينج، أو يضرب المثل بمثالية غاندي وصلابة مانديلا، ولا يجد من يقلب له صفحات التاريخ المشرق لأمة الإسلام وكفاح أبطالها النضالي -وهم كثر- فى مواجهة أعداءها، وينبتون فى ربوع الوطن كما ينبت العشب الأخضر، إلا أن جماعة الإخوان المسلمين فى مرحلة "ظلام الستينيات والسبعينيات" عثرت على ضالتها فى المثل والرمز عمر التلمساني وبات مضرب المثل فى الكفاح ضد الإبادة الجماعية والاستبداد.
ربيب النضال
الإمام التلمساني لم يكن يوما إسما عابرا فى تاريخ جماعة الإخوان المسلمين، وإنما هو البعث الثاني لتلك الدعوة التى ذاقت الويلات تحت نير حكم العسكر، منذ الانقلاب على شركاء ثورة 23 يوليو 1952، بوضع الرئيس محمد نجيب تحت الإقامة الجبرية، ودفع آلة القتل والاعتقال باقصي طاقتها لوأد النبتة التى غرسها الإمام الشهيد حسن البنا، فعمل بثقة وصلابة على الحفاظ على قوام الجماعة رغم البلاء العظيم، وحمايتها من السقوط فى فخ الفتن جتى عبر عثرتها أكثر صلابة وأكبر اتساعا وأوسع شعبية.
إلا أنه لا غرابة فى صلابة الإمام الرباني الذى تربي على يد أبطال المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، قبل أن يضيق على أجداده الخناق، فيحطوا رحالهم فى القاهرة عام 1830، ليستقر جده فى ربوع الأزهر ولعى تخوم العاصمة القديمة، وعلى الرغم من نشأته الناعمة فى مصر لجد من الباشاوات إلا أنه تشرب روح العزة من صمود الأجداد وتربي فى كنف الإخوان، واشتد عوده بمصاحبة البنا فاكتسب الحكمة والقدرة علي الحوار واحتواء المعارضين، وشهد له المعارض قبل الحبيب.
وليس بوسع مؤمن يهمه أمر الإسلام و الدعوة إليه وتقصي أحوال دعاته أن يجهل اسم هذا الداعية، الذي قدر له أن يحمل أمانة القيادة لأكبر حركة إسلامية عرفها هذا القرن، إنه "عمر بن عبد الفتاح بن عبد القادر مصطفى التلمساني" والذى تعود أصوله إلى تلمسان الجزائرية، والتى رسخت فى داخله الطابع الأندلسي المحافظ ليعكس ارتباطه بالوطن الأم إلى جانب انصهاره فى بلد الميلاد والوفاة.
الدرب الأحمر
ولد المرشد الثالث لجماعة الإخوان فى 4 نوفمبر عام 1904، في حارة حوش قدم بالغورية قسم الدرب الأحمر بالقاهرة، وتربي فى بيت ينعم ببحبوحة فى الرزق وثراء لا تخطئه عين لجد جاء إلى القاهرة واشتغل في تجارة الأقمشة والأحجار الكريمة، وانتشرت تجارته ما بين القاهرةوجدة وسنغافورة وسواكن والخرطوم، ثم صفي عمله ذاك ليتوجه إلى الزراعة حيث اشتري مساحات واسعة من الأراضي بقرية نوى فى شبين القناطر بمديرية القليوبية، ومساحات أخرى في قرية المجازر مركز منيا القمح بمديرية الشرقية.
تزوج عمر التلمساني في سن مبكرة في سن الثامنة عشرة وهو لا يزال طالبًا في الثانوية العامة، وظل وفيا لأم أبنائه الأربعة حتى توفاها الله في أغسطس عام 1979م، وحصل على شهادة ليسانس الحقوق، ثم عمل بمهنة المحاماة وافتتح مكتبًا في شبين القناطر.
وفي سنة 1933م التقى بالأستاذ "حسن البنا" في منزله، وكان يسكن في حارة عبد الله بك في شارع اليكنية في حي الخيامية، وارتبط بتلك الدعوة الوليدة التى لم تكمل بعد عامها الخامس، وأصبح من الإخوان المسلمين وكان أول محامٍ يعمل بتوكيل من الجماعة للدفاع عن الأحرار أمام المحاكم المصرية.
دخل السجن في عام 1948 فى العهد الملكي، قبل أن تحاكمه ثورة عبدالناصر بالاعتقال فى عام 1954م وأفرج عنه في آخر يونيو 1971م، حتى جاء قرار الإفراج ليحمل له حالة من الحيرة حول تلك البلدة التى لم يعد يعرف شوارعها وهذا المنزل الذى لا يعرف السبيل إليه.
تلقي الإمام تعليمه فى مدارس الجمعية الخيرية، فلما توفي الجد انتقلت الأسرة إلى القاهرة ، فالتحق بالمرحلة الثانوية من الإلهامية في الحلمية حيث حصل على شهادتها، ومن ثم انتظم في كلية الحقوق، وبعد التخرج فيها بدأ التمرن على المحاماة، ثم اتخذ له مكتباً في بندر شبين القناطر، حيث مارس عمله القانوني واكتسب صيتا واسعا.
ولم تشغله المحاماة عن تثقيف نفسه بالعلوم الإسلامية إذ كان نزاعاً إلى المطالعة في كتب الفقه والتفسير والحديث والسيرة النبوية ، ومع وفرة قراءاته ومحفوظاته من القرآن الكريم والحديث الشريف، لا يزعم لنفسه العلم وليس هو في رأيه عن نفسه سوى قارئ نهم لكل ما يتعلق بدينه يريد أن يتعلم منه ما لا يعلم، ولا يسمح لنفسه أن يفتي في شيء.
ويتصل بهذا الجانب من حياة فضيلته أنه مع حفظه الآلاف من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يلقي بالأثر الذي يستشهد به مرفوعاً إلى مقام النبوة إلاً مصحوباً بقوله "أو ما هذا معناه" لأنه لا يحفظ مع الحديث سنده، ويخشى أن تكون له رواية أخرى أصح لفظاً منه، فيعمد إلى ذلك الاستدراك لعلمه بأن أئمة الحديث يرون صحة روايته بمعناه، ويتأيد ذلك لديه بالأثر النبوي القائل "نضر الله وجه امرئ سمع مقالتي فوعاها" حيث قيد سلامة الرواية المقبولة بالوعي، والوعي أمر يختص بالمعنى دون حرفية اللفظ.
معركة الوعي
عرف جمهور الناس أسلوبه الحكيم من خلال حواره مع الرئيس أنور السادات ، يوم وجه هذا هجومه العنيف عليه وعلى الإخوان، وساق إليهم أنواع التهم المفتراة ، وهو يظن أن خوف السلطة سيقطع لسانه عن الرد، فإذا هو يخيب فأله ويلتف على مفترياته بالحجة الداحضة حتى يختمها بقوله: الشيء الطبيعي بإزاء أي ظلم يقع علي من أي جهة أن أشكو صاحبه إليك بصفتك المرجع الأعلى للشاكين بعد الله، هأنذا أتلقى الظلم منك فلا أملك أن أشكوك إلا إلى الله.. وما كان أروعه رداً حطم سلاح الطغيان بأدب اللسان وقوة الإيمان، فإذا بالرئيس يلملم تهمه وينقلب مستعطفاً يسأل المظلوم إلغاء شكواه، وكل ذلك على مرأى ومشهد من مئات الحاضرين لذلك الحفل ، وملايين المشاهدين عن طريق التلفاز .
واعتبر التلمساني أنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأبرار كان أكثر الرجال تأثيراً في حياته هو الإمام الشهيد حسن البنا رضوان الله عليه، فقد حباه الله بكل ما يقربه إلى قلوب المسلمين، يبغضه إلى كل خصوم الدعوة الإسلامية، لا أتحدث عن غزير علمه، فرسائله حوت -على إيجازها- كل ما يحتاجه المسلم للتفاني في سبيل دينه، وما يعوز الداعية من منهاج واضح بين موضوعاً ووسائل وأساليب.
واتخذ المرشد الرباني كل واحدة من رسائل البنا متن صالح لمجلدات ضخمة تفسيراً وتبصيراً، لقد أفاض الله عليه ذكاءً عجيباً حتى ليكاد يجيبك على ما تريد قبل أن تتوجه إليه بالسؤال، وكان من الثقة بحيث يظن كل أخ من ملايين الإخوان المسلمين أنه أقرب الناس إليه، وأحبهم لديه، بسيطاً غاية البساطة في مظهره ومعاملاته وأحاديثه، حتى إذا علا المنبر أخذ بكل جوانب النفس، فتظل معلقة بكلامه في وعي خيفة أن يفوتها حرف منه.
التكوين السياسي
عاصرت الوفد وقيام ثورة 1919، وكانت مشاعره بحق نابعة من مشاعر الشعب كله، وكان المنتظر أن تأتي بأبرك الثمرات لمصر بخاصة وللأمة الإسلامية بعامة، لولا المؤامرات الشخصية، والانفعالات الزعامية، والألاعيب السياسية، التي مزقت الشعب المصري فرقاً وأحزاباً وشيعاً واتجاهات، وأطاحت بكل ما أمله المصريون .
وهنا استشعر الميل نحو التوجه الوفدي، ويعبر عن تلك المرحلة: "لقد نابني من ذلك بعض الرشاش خلال تعصبي الوفدي وأنا في مطالع الشباب، كذلك كان لانقلاب يونيو 1952 أثره الكبير، إذ أيقظ المشاعر وحرك الرغبة في رؤية شرع الله مطبقاً في هذا البلد المسلم، ومن أجل ذلك كان للإخوان المسلمين أكبر الأثر في نجاحه، إذ كانوا يجوبون القطر كله في بث الدعوة الإسلامية، وربط القلوب بعقيدتهم، ونقد المفاسد والمظالم التي كانت تسود البلاد من قبل الاستعمار، وطغيان الملكية وتهافت الأحزاب".
واعتبر أنه فى الوقت الذى توجه الإخوان نحو الشعب كان هيئة الضباط الأحرار تعمل في الخفاء، ولم يكن يشعر بها أحد، فلما أسفرت وجدت الطريق ممهداً والجو صالحاً، والشعب على استعداد لتقبل الانقلاب، ولكن لحكمة لا يعلمها إلا الله تغلب حب الزعامة والظهور، فكان ما كان من انقلاب الضباط الأحرار على الإخوان المسلمين، الذين أخلصوا لهم العون، ومهدوا لهم السبيل، ولا غرابة في ذلك، فالسلطان كما يقال، عقيم لا يتورع أصحابه أن يتجاوزا من أجله كل شيء حتى أبسط مبادئ الأخلاق.
وفتك عبد الناصر ب الإخوان المسلمين استناداً إلى قوة الجيش والشرطة، والقوى التي كانت تكيد للجماعة، وبخاصة الصليبية والصهيونية والملاحدة، ولو أن ما أنزله عبد الناصر كان في غير الإخوان المسلمين لكانوا اليوم واحداً من أخبار التاريخ ترويه الأجيال للعظة والاعتبار، أما الإخوان فقد زادتهم المحن إيماناً، ومكنت لحب الله ودعوته في قلوبهم، وقد ذهب الظالمون وأعوانهم وبقيت دعوة الله على الرغم من محاولات القوى المحاربة للإسلام ، لأن كلمة الله ثابتة لا يعتريها زوال.
وما من شك أن مواقف الإخوان المسلمين ودماءهم الطاهرة التي روت شجرة الإيمان على ثرى فلسطين وعلى ضفاف القناة، قد هزت المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وهكذا أثبتت دعوة الإخوان للعالم بأسره أنها قوة ولاء عملي، رسخ الإسلام في صدرها وصدق العمل في حركاتها وتصرفاتها وتضحيتها وصبرها ومرابطتها، الأمر الذي ألهب نيران الكراهية في صدور أعداء الإسلام، فهي تتكشف يوماً بعد يوم على كل بقعة من ربوع المسلمين.
العودة إلى الحياة
ويكمل التلمساني رحلته فى مضمار الدعوة إلى الله بمرحلة ما وراء المعتقل، بعد اعتقال دام 17 عاما خرج من السجن وقد ازددت يقيناً بالحكمة القائلة (لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع) فالسجين قد استقر عند خاتمة المطاف، فليس لدى ظالمه إلا سجنه أو قتله ، والسجين المستمسك بعقيدته تسليماً لأمر الله أشد إيلاماً لنفس الظالم من غيره ، لأن غيره يبيت ويصحو متوقعاً المجهول من البلاء ، وهذا التوقع قد يحول بينه وبين الكثير من العمل لدعوته.
واختير مرشدًا للجماعة بعد وفاة المستشار الهضيبي ليقود دفة الجماعة بثقة وقوة وحكمة لتشق غباب دولة القيود، قبل أن يعاود السادات سيرة العسكر الأولي ليتم القبض عليه مع المئات من مفكرين وأقباط وأساقفة وكتاب وغيرهم في عام 1981م.
وتوفي المرشد الرباني في يوم الأربعاء 13 من رمضان 1406ه الموافق 22 مايو 1986 عن عُمْر يناهز 82 عامًا، ثم صُلِّي عليه بجامع "عمر مكرم" بالقاهرة ، وكان تشييعه في موكب مهيب شارك فيه أكثر من ربع مليون نسمة وقيل نصف مليون من جماهير الشعب المصري فضلاً عن الوفود التي قدمت من خارج مصر .
وقد شاركت الحكومة في عزاء الإخوان المسلمين ، وفي تشييع الجثمان، وحضر رئيس الوزراء، وشيخ الأزهر؛ وأعضاء مجمع البحوث الإسلامية ورئيس مجلس الشعب ، وبعض قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، ومجموعة كبيرة من الشخصيات المصرية والإسلامية إلى جانب حشد كبير من السلك الدبلوماسي، العربي والإسلامي، وشارك وفد من الكنيسة المصرية في تشييع الجثمان.