«الشعب المصرى لم يجد من يحنوا عليه» بهذا الكلمات التمثيلية حاول قائد الانقلاب تمرير استيلائه على السلطة، ومحاولة إيهام الشعب بأن خيانته للقائد الأعلى للقوات المسلحة كانت من أجل منح المواطنين قليلا من الحنية الضائعة وتعويض البسطاء عن العطف المفقود، إلا أن الشعب عندما ظهر من يحنو عليه تأكيد أن الموت والانتحار أخف وطأة وأكثر رحمة من العسكر وزبانيته. ومع تنامي حملات القمع والقهر والتعذيب وعودة دولة السحل البوليسية لكبت الحريات وتكميم الأفواه وملاحقة الشرفاء، وتفرغ المؤسسة الدينية من أجل تبرير مذابح الانقلاب وإضفاء الصبغة الدينية على ممارساته الفاشية مع ترك الساحة على مصراعيها لدعاة الإلحاد وتشويه الدين ومحاربة العلماء والرموز، وتعمد الحكومة إفقار الشعب ورفع الدعم، وتآمر العسكر على الثورة وتزييف الحقائق وتزوير الأوراق لمحاكمة الثور ونهب ثورات الوطن، كان لا بد أن تنتشر ظاهرة الانتحار المزعجة والدخيلة على المجتمع وتتنامى بصورة متطردة. "التنسيقية المصرية للحقوق والحريات" رصدت 30 حالة انتحار في الفترة من بداية أكتوبر وحتى منتصف نوفمبر الماضي، وهو العدد الذى تزايد بشكل ملحوظ فى الأيام القليلة الماضية بسبب مشاكل أكثرها معيشية وأعظمها مادية وأقلها أسرية.
وأكدت التنسيقية –فى بيان لها- أن تدهور الأحوال الاقتصادية والظروف المعيشية التي تشهدها مصر منذ انقلاب 3 يوليو، وعودة الدولة البوليسية بكافة أشكالها وممارساتها التى ثار عليها الشعب المصرى فى 25 يناير من أجل الإطاحة بالمخلوع وعصابته، هى السبب الأبرز وراء تزايد حالة الانتحار.
مشهد مواطن مصر متدلٍ من حبل على لوحة إعلانية أو من شرفة منزله وقد فاضت روحه، أو رؤية جريان دماء أحد الشباب فى نهر الطريق بعد قفزه من سحط أحد العمارات بوسط البلد، أو انتشال جثمان فتاة غارقة فى النيل بعد القفز من كوبرى قصر النيل فى وضح النهار، بات مكررا ومعتادا مؤخرا، بل تطور إلى استخدام الأسلحة النارية بعدما أطلق مزارع النار على نفسه اليوم فى القليوبية، ومحاولة مندوب شرطة "أحمد فهيم" التابع لقسم ثالث الإسماعيلية الانتحار بطلق ناري في الرأس، مستخدماً سلاحه “الميري”، عقب تورطه في العديد من القضايا والبلاغات. الدكتورة سامية خضر -أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس- أوضحت أن الانتحار موجود في مصر منذ وقت طويل، ولكنه تزايد بشكل ملحوظ فى الآونة الأخيرة مع تزايد الضغوط النفسية والحياتية على المصريين مما دفع الشعب لحالة من الاكتئاب وتجعله يقدم للانتحار والتخلص من حياته.
بدوره، اعتبر الناشط السياسى أحمد الشاذلي أن المرحلة التي تعيشها مصر تحتاج إلى تكاتف الجميع من أجل السيطرة على العقول الشيطانية بين الشباب، ومحاولة تأهيلهم للمرور من المشاكل التى تواجههم.
وشدد الشاذلي: :إن الحكومة تعمل على خدمة مصالح الكبار ورعايتهم وعدم الاهتمام بجيل كامل من الشباب، يحتاج إلى إعادة تأهيل وبناء، وذلك في ظل مشاكله ويأسه من مواجهتها، ليجد الموت هو الوسيلة الوحيدة للخروج من هذه المشاكل بدون تعب.
فيما أكد الشيخ "رمضان السبكي" مدير إدارة الدعوة بمديرية أوقاف المنوفية، أن غالبية الشباب في المجتمع المصري أصبحوا بعيدين عن الله في كل أعمالهم، مقتنعين بأن المشاكل لا تواجه إلا بالهروب منها وليس بالصبر على الشدائد كما أمرنا القرآن الكريم.
وكشف السبكى أن دعوة الأوقاف لم تنجح فى الحد من الظاهرة بالرغم من محاولة الوصول إلى الشباب والجلوس معهم للتأكيد على أهمية الدين الإسلامي وحرمة الانتحار، إلا أن أغلب الشباب أصبحوا في متاهة أخرى غير الدين الإسلامي، إضافة إلى المواد المخدرة التى يتعاطاها نسبة كبيرة من الشباب، ما يؤدى لانتشار حوادث الانتحار في المحافظة بصورة كبيرة. تصريحات السبكى تكشف القصور الحقيقى فى دور الأوقاف لمحاربة الإلحاد أو الانتحار خاصة وأن دورها بات يركز على ملاحقة ومراقبة الأئمة والدعاة ولعب دور الذراع الأمنى داخل المساجد، إلا أن ناقوس الخطر دقه الدكتور هشام بحيري، رئيس قسم الطب النفسي جامعة الأزهر، بعدما كشف أن مصر يوجد بها حوالي 900 ألف مواطن مقبل على الانتحار خلال الفترة المقبلة بسبب إصابة عدد كبير منهم بالاكتئاب العقلي، حيث إن نسبة الانتحار فيه أكثر من انتحار الإنسان الطبيعي.
وأكد أن إقبال أي شخص علي الانتحار ينتج لتعرضه لضائقة مالية أو عاطفية وآخرين شخصيتهم وإيمانهم ضعيف، فضلاً عن أن هناك جماعة تسمى "الجماعات الانتحارية" تقدم علي الانتحار بهدف لفت انتباه الرأي العام لقضية معينة.
وما بين من أقدمت على حرق نفسها أو ألقت بحياتها فى قاع النهر، أو شنق نفسه وقفز من أعلى أحد المبانى، يبدو بالفعل أن الشعب وجد أخيرا من يحنو عليه، ويرشده إلى طريق الراحة .. الأبدية.