الجنائيات هنا لهن ثقافة مختلفة.. فتاجرات المخدرات يتفاخرن فيما بينهن بمهنتهن ولا يرون فيها عيباً، فهن ليسن كفتيات الآداب اللاتي بعن أنفسهن بأرخص ثمن, أما المتورطون في قضايا قتل، فمنهم من ينكرن فعلتهن ومنهن من تعترف بجرائمها ويختلقن المبررات التي دفعتهن لذلك، يتعاملن معنا بمنطق "خاف على نفسك ومتكترش معنا في الكلام"، يرون أن أيامهن على الأرض معدودة، فلا يفرق معهن أحد، ولا يخشين أحدا. تجنبهن أفضل الخيارات.. وذلك عن تجربة عملية أتذكر مشاجرة لي مع إحداهن بسبب "أن منظر الشول مش عاجبها.. وتريدني أن أخلعه فقط لكونها تتشاءم من شكله وأنا لابساه!!! فعندما اعترضت، وقولت لها "أنا حره واللي عندك اعمليه".. قامت بكسر كوب الشاي الذي تحمله بيديها, لتمسك بقطعة زجاجة تهددني بها قائله "بقولك ايه.. أنا كده كده إعدام مش فارقة معايا يعني لما أجيب راسك نصين الحكم واحد, مش هتعدم مرتين". أما تاجرات المخدرات فهن ألطفهم معاملة مقارنة بالقتلة، وأفضلهن خلقاً مقارنة بالآداب, فعلى الرغم من أن ممارسيها يتعرضن للحبس سنوات قد تصل للمؤبد إلا أن ثمة علاقة بينهن وبين رءوس الفساد من أصحاب المناصب السيادية تعطي لهن امتيازات داخل السجون تعوضهن حبستهن. كانت أولى خطوات الاحكتاك المباشر مع الجنائيات، تقدمت به مسجونة تدعى "فرح".. وتشترط علي أن تقوم بغسل ملابسنا ثلاث مرات أسبوعياً, مقابل 50 جنيها شهرياً تودع باسمها بالكافتريا، رحب المعتقلات بعرضها، وكان للتعامل الجيد الفضل في استمرار العلاقة الطيبة بينهن وبينها لدرجة جعلتها تختلس الدقائق للمكوث معنا للتنفيس عن نفسها. لو لم يكن الذهاب للحمام ضرورة ملحة لستغنيت عنه، خمس دقائق بحمام سجن القناطر كفيلة بأن تصيبك بالصداع النصفي، وجزء آخر خصص كملتقى اجتماعي يتبادلون فيه الأحاديث الفارغة لا تخلو من الغيبة والنميمة وروايات التحرش، وكان هناك جانب من الحمام يستخدم للتجميل! ويبدو أن الجنائيات قررن استثمار أوقاتهن في مشروع "كوافير حريمي.. صبغة ووشم وحمامات زيت وفرد شعر". وكانت لغة التبادل الخدمي بين المسجاين "بخرطوش السجاير". لم نكن من زوار "الكوافير"، فما جئنا للتزين أو التباهي بأجسادنا، الأمر الذي جعل الجنائيات يبحثن عن لغة تعامل أخرى أكثر انتفاعاً، وبالفعل بدأ الجنائيات يتوافدن على الزنزانة لعرض ما لديهن من منتجات. السلام عليكم: أنا بيبيع فطير لو عاوزين عرفوني.. واسمي "فلانة". السلام عليكم: أنا أم "فلان" وممكن أغسل المواعين لو احتجتوني. السلام عليكم: احنا بنبيع مفروشات وأشغالا يدوية. الطريف أن المعتقلات قبلوا بعروضهن، بل أضافوا لغة جديدة للتعامل، فوجدوا في "اللبن والعصائر والفواكة"، بديلاً شرعيا ومناسباً عن السجاير.. وجاءت رود أفعال الجنائيات المبهرة.. أتذكر منها جمله لإحدى المسجونات حين قالت "عشنا وشوفنا الإخوان بيتعاملوا باللبن والبسكوت بدل السجاير.. هما فاكرين نفسهم في مدرسة؟"، لم يخلُ الأمر من الانتقادات أحيانا المسموعة وغير المسموعة، ولكن بعد مرور الوقت بدأ كل طرف يستوعب الآخر. يبدأ اليوم بأن تنادي إحدى الجنائيات علينا للذهاب إلى "التلاجة الجماعية"، والتي تضم أكياس مكتوب عليها بأسماء الجنائيات لحفظ أطعمتهن المثلجة، ولفتح الثلاجة موعد محدد، ولا يجوز تبديل الطعام أو طلب المزيد بعد غلق الثلاجة، "الأوبشن واحد.. ولوائح السجن غير قابلة للنقاش". وبعدها تبدأ حملة النظافة ومسح أرضيات العنبر والحمام، وهناك من يمتهن النظافة بمقابل مرضي لهن، ثم فقرة التسالي أو التريض، والألعاب المفضلة لديهن الكوتشينة والدومانو. لا أحد بإماكنه إغفال دور الجنائات في إيقاظنا، فأصواتهن الرنانة باستطاعتها إفاقة مريض العناية المركزة. السرائر تحجز حسب الأقدمية العشرات منهمن يفترشن أرضيات العنابر للنوم ولعدم وجود مكان لمتر كاف للنوم قد ينام بعضهن بالحمام في تمام الساعة السابعة صباحا تبدأ عملية المرور على العنابر لإيقاظ المسجونات الجنائيات لمسح العنبر وتوزيع الأغذية والخبز. بكل عنبر مسئولة عن المسجونات مسئولة كاملة أمام إدراة السجن "جنائية نبطشية"، لها احترامها وهيبتها، صوتها يعلو صوت السجنات، لها امتيازات معتمدة من إدارة السجن، فلها حق إصدار قرار بدخول المسجونة حجرة التأديب والحبس الانفرادي, لها أحقية "تشريد" المسجونات في العنابر "كبير النبطيشات" امرأة تدعى "ناصرة".. أو كما يطلقون عليها المسجونات "يا امي يا ناصرة" هي البطلة الأولى في سجن نساء القناطر, فهي الفلك الذي يدور حوله الجميع, أتذكر عندما توجهت إحدى المعتقلات لإبلاغ إدارة السجن عن معاملتها السئية لها قال لها مفتش المباحث ممدوح بيه لفظا "ناصرة دي دراعي اليمين في السجن". ناصرة امرأه في أواخر الثلاثينات، حكم عليها بالمؤبد لتجارتها بالحشيش, يومها يبدأ في السادسة صباحا كموظفة, مخصص لها "تخته" عليها سجلات بأسماء المسجونات وبياناتهن, لا أحد بإماكنه التحرك من المسجونات أو رئيسات النبطشيات إلا بعد موافقتها والاستئاذن منها. رغم شدتها إلا أنها لها القدرة على ضبط السجن, الأغذية يجب أن توزع في مواقيتها, لا أحد جاء إليها بشكوى إلا وأحاطتها عين الاعتبار, لم تنفرد برأي إلا بعد العودة لمأمور السجن "عبد الغفار بيه", تتعامل معنا بشيء من الحيادية, فلم تؤذنا بلفظ يهين كرامتنا مثلما تتعامل مع المساجين وكأنها ولية أمرهم. تمر كل يوم على جميع العنبابر في موعد "التمام" وهو الثانية عشرة صباحا بتوقيت السجون المصرية, فالجميع في تلك الساعة لا بد أن يعتلي سريره، حتى ولو لم ينم, فقوانين السجن لا تخالف إلا في الحالات القصوى والمناسبات, مثل رمضان الذي تم تجاوز فيه موعد التمام للتفرغ لمسلسلات رمضان ومتابعتها. والحق يقال إن المعتقلات السياسيين كن يعاملن باحترام من كافة المسجونات ومن رؤساء النبطشيات, كانت لنا ساعة "تريض" للخروج بساحة السجن يوميا بعد صلاة العصر, كانت هناك أوامر مشددة من إدارة السجن بفصل الجنائيات عن السياسيين, ووصل الأمر للفصل في الحمامات، فيخصص لنا إحدى غرف الحمام لا يدخلها سوى "الإخوان" وغرفة حمام افرنجي لوكس لناصرة، لا أحد يجوز له حق التطلع من رؤساء للاستحمام بدخالها إلا إذا كان ذا مقربة منها، تجلعه يظفر بهذا الحق", و8 غرف "اي كلام" لعموم مساجين. عنبر (1) تحقيقات الزيارات في السجن كل 15 يوما، وإذا لم يصدر حكم قضائي له أحقية الزيارة كل أسبوع، قفص كبير، تدخل فيه السجينة وبعد خمس دقائق تدخل كوثر "امرأه التفتيش"، وبعدها تدخل أخرى للختم على يدك بختم الداخلية" (كده يعني انتي زورتي أهلك)، مدة الزيارة المفترضة ربع ساعة، والفعلية من 5 إلى عشر دقائق, عدد الزائرين لا يتجاوز 3 أفراد. كنا نحاول قدر المستطاع أن نتعرف إلى حال المعتقلات الأخريات بعنبر العسكري, ونتطلع إلى معرفة أخبارهن خلال ذهابنا إلى الكافيرتا علنا نجد إحداهن فنسترق من لحظات انتظار الشراء في الحديث عن أحوالهن, أو نسرب جوابات (تثبيت وحكاوي) عندما تتوافق موعد زيارة لإحدى الفتيات بالعنبر مع زيارة لإحدى فتيات عنبر التحقيقات وكان نادرا ما يصادفنا الحظ. وكنا نتخلص من التغذية الممرضة التي كانت توزعها إدارة السجون أولاً بأول، معتمدين على معونات أهالينا المغدقة، والتي كانت مصدر رفاهية العنبر بأكمله، فرغم القبضة الإدارية بعدم الاحتكاك مع الجنائيات إلا أنهن كن يتبادلن معنا (لقمة العيش) ويستمعن إلى دعائنا "مأمنيين عليه"، كان يتتبعن دخولنا إلى حمام السجن للاطمئنان علينا ومعرفة مستجدات قضيانا في خفاء، كي لا يتعرضن للإيذاء من عيون فتيات ناصرة اللاتي يتجسسن لنقل كل كبيرة وصغيرة لها. كانت مسئولة نبطشية القسم السياسي بعنبرنا امرأه تدعى (أمل) حكم عليها بالمؤبد، صوتها عال ولسانها علق به شوائب المجتمع الذي أقناعها بأنه صناعة الهيبة لا تتم إلا باستخدام أقذر الشتائم. هند ورشا منير ولعلهما أول من يستفتحن سجن القناطر بعد ترحيلهما إليه بأحداث رمسيس الأولى عام 2013، وصلا إليه منذ أول يوم لهما إن وجودها معهما في حجرة واحدة مرهون بتلفظها تلك الكلمات، ولا حرج في ذلك. أما في الثامنة مساء من كل خميس وثلاثاء تأتي الفقرة التي ينتظرها الجميع، وهي فقرة "الرقص الشعبي"، والطريف أن إدارة السجن في الوقت التي كانت تتشدد فيه معنا حينما كنا نطالب بإدخال راديو أو ام بي ثري، كانت تسمح فيه للجنائيات بإدخال "سماعات دي جي" وام بي ثري اغاني شعبي، وصوت الموسيقى والأغاني يملأ السجن ضجيجا، فلا تعرف حقاً.. هل أنت بسجن نساء القناطر أم بقاعة أفراح بشارع الهرم؟
نستكمل فى الحلقة القادمة تابع الحلقات الحلقات السابقة "ليلة القبض على سماح".. الحلقة الثالثة "ليلة القبض على سماح".. الحلقة الثانية "ليلة القبض على سماح".. الحلقة الأولى