لم يجد فريق أطباء جامعة طنطا إلا التقدم ببلاغ إلي النيابة العامة والداخلية وزارة الصحة، للتحقيق في واقعة استقالات طبيبات المستشفى الجامعي لتحقيق مستوي معيشي أفضل للنواب، وكذلك القائمين على قسم النساء مستشفى طنطا الجامعي. وفي محاولة متأخرة لاحتواء الموقف، أعلنت النقابة العامة للأطباء الأربعاء عن صدور عدد من القرارات على خلفية الاستقالات الجماعية التي شهدها قسم النساء والتوليد بكلية الطب جامعة طنطا، منها أمر إداري بنقل وحدة قسم النساء والتوليد إلى المستشفى التعليمي الفرنساوي والاتفاق على أن تكون النوبتجية 24 ساعة بدلًا من 48 ساعة على أن يتم تقسيمها 12 ساعة فقط في اليوم، وذلك في حالة اكتمال عدد الأطباء المقيمين مع مراعاة استمرار العمل بصورة طبيعية لخدمة المرضى، وأيضًا عمل نظام تناوب يتيح للطبيب المقيم أخذ قسط من الراحة. وعلى الرغم من هذه الإجراءات، إلا أن ما حدث في قسم النساء والتوليد بجامعة طنطا أكد أطباء أن ما حدث ليس حالة فردية، بل يمثل عَرَضًا واضحًا لأزمة عميقة داخل منظومة التعليم الطبي في مصر حيث سبق 112 طبيبا بجامعة الإسكندرية الاستقالة لأسباب مماثلة، فضلا عن عشرات الحالات غير المعلنة في مستشفيات مصر. وحذر المراقبون من أنه "إذا لم تُتخذ خطوات جادة لتحسين بيئة العمل، وزيادة الرواتب، وتنظيم مسارات التخصص بشكل عادل وشفاف، فإن نزيف الكفاءات سيستمر، ومعه ستتفاقم أزمة نقص الأطباء ما يؤثر سلباً على خدمات الرعاية الصحية في مصر". ونشرت الطبيبة رنيم جبر منشورًا على منصات التواصل الاجتماعي سردت فيه ما وصفته ب"ظروف العمل القاسية" التي دفعت 8 أطباء من أصل 15 لتقديم استقالاتهم خلال أقل من عام، وسط غياب أي دعم نفسي أو مهني.
وقالت الطبيبة: إن "العمل داخل القسم كان يتم بنظام نوبات مرهق يصل إلى 72 ساعة متواصلة دون راحة أو إجازات، إلى جانب إجبارهم على أداء مهام إدارية وتمريضية ليست من اختصاصهم. وأضافت أنها عاشت عامًا كاملًا في ضغط جسدي ونفسي شديدين دون أن تلقى أي نوع من التقدير، رغم اجتهادها وتفوقها، ما أدى في النهاية إلى اتخاذها القرار الصعب بترك المكان". وأضافت رنيم" إن التجربة التي كانت تأمل أن تكون تعليمية، تحوّلت إلى استنزاف بدني ونفسي تحت مظلة نظام لا يُنصف ولا يُطوّر". وحظى منشور الطبيبة بتفاعل واسع وتعاطف كبير من الأطباء والمتابعين، الذين طالبوا بفتح تحقيق رسمي في ملابسات ما حدث، ومراجعة نظام تدريب نواب الأطباء في المستشفيات الجامعية لضمان حقوقهم وتحقيق العدالة في بيئة العمل لاسيما وأن "النواب" درجة أعلى من طبيب الامتياز يتعرض أغلبهم لضغوط نفسية وجسدية شديدة، تبدأ من تحميلهم أعمالًا لا تمت لطبيعة دورهم الطبي بصلة، مثل إدارة العمال والممرضات، وصولًا إلى تكليفهم بمهام غير مبررة في أوقات راحتهم. وقالت الدكتورة هايدي هاني، إحدى النائبات المستقيلات: إن "مكان النوم المخصص لهن كان "غرفة بها مرتبتان على الأرض تنام عليهما القطط"، وهو ما عرض إحدى زميلاتهن للسرقة وهي نائمة. أما زمليتهما "د.سارة"، فسردت تفاصيل مريرة عمّا وصفته ب"السينيورتي الخانقة"، والتعنت الإداري، والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية داخل مكان يُفترض أن يكون صرحًا علميًا. وأضافت "سارة"، "مافيش مكان نرتاح فيه، مافيش حمام آدمي، مافيش وقت للنوم، وحتى لو نمنا من التعب، نتبنش، إحنا مش بشر؟"، موضحة "القسم يفتقر إلى بيئة دعم نفسي أو مهني، وواصفة ما يحدث بأنه نزيف في الكوادر الطبي" نقابة الأطباء ومن جانبه، تفاعل الأمين العام المساعد لنقابة الأطباء المصرية، د.خالد أمين وقال: إن "النقابة تواصلت مع الأطباء المستقيلين وفتحت قنوات تواصل مع جامعة طنطا لمتابعة التحقيق في الواقعة، وشدد على أن هذه الاستقالات تعكس أزمة أعمق تتعلق بضعف الأجور، وسوء توزيع النوبات، وتعقيدات الدراسات العليا، وغياب الدعم المؤسسي للأطباء الشبان".
وتوجه الدكتور أحمد غنيم، عميد كلية الطب بجامعة طنطا، إلى عقد اجتماع عاجل بحضور قيادات المستشفى والأطراف المعنية للاستماع لكافة وجهات النظر ومعالجة الأزمة، مع التأكيد على السعي لتحسين بيئة العمل بشكل جذري. خلل هيكلي وتشهد المستشفيات في مصر الجامعية وغيرها موجة استقالات جماعية للأطباء غير مسبوقة بظل الانقلاب، كما يفاقم من أزمة نقص الكوادر الطبية، حيث تعاني مصر بالفعل من عجز شديد في عدد الأطباء، حيث يبلغ متوسط عدد الأطباء أقل من 1.2 طبيب لكل 1162 مواطن، وهو رقم أقل من المعدل العالمي الذي يصل إلى 2.3 طبيب، بحسب منظمة الصحة العالمية . البيانات الرسمية تشير إلى أن حوالي 65% من الأطباء المسجلين في النقابة يعملون خارج مصر، بينما تقدم آلاف آخرون باستقالاتهم خلال السنوات الأخيرة. ففي عام 2023 فقط، غادر أكثر من 7 آلاف طبيب البلاد. العجز المتزايد يعود بشكل مباشر إلى الظروف غير الآدمية التي يعمل فيها الأطباء، والضغط النفسي والبدني الشديد، إضافة إلى تدني الأجور وغياب الحوافز. وبحسب آخر رصد صادر عن "الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء"، فقد انخفض عدد الأطباء بالبلاد إلى 97.4 ألف طبيب عام 2022 مقابل 100.7 ألف طبيب في 2021، بانخفاض بلغت نسبته 3.3% . ورصد مراقبون أن هذه الأزمة يفاقمها أيضا تفشي الوساطة والمحسوبية في منظومة التدريب الطبي بالمستشفيات الجامعية، إذ تُمنح الفرص بناء على العلاقات لا الكفاءة، ما يحرم كثيرين من المتفوقين من التدرج الطبيعي في مسارهم العلمي والمهني، كما أن الضغط الإداري لا يُمارس على الجميع بشكل متساوٍ، ما يخلق بيئة غير عادلة تهدد تماسك المنظومة، بحسب ما ذكره عدد من الطبيبات المستقيلات.