يستدعى حدثُ تحويلِ القبلةِ من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، فضائل صحابة النبى صلى الله عليه وسلم، ومدى طاعتهم (رضوان الله عليهم) له، وامتثالهم لأمره، وهو ما يجب أن يكون عليه المؤمنون الآن مع كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ من الاستمساك بهما، واليقين بأنهما الصراط المستقيم والسراج المنير، وما دونهما شُبهٌ وضلال. ومن الحتم لرجال الدعوة أن يتبعوا أولئك الأفاضل، شبرًا بشبر وذراعًا بذراع؛ امتثالًا لما جاء فى فضلهم عن المعصوم صلى الله عليه وسلم: «أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم». وموقفهم من تحويل القبلة يستحق التأمل، كما استحق موقفهم يوم الإسراء، ويوم الهجرة، ويوم بدر، ويوم الأحزاب، وفى الإفك إلخ، وكلها تنبئ عن حب دفين لله ورسوله، وثقة ويقين، وانقياد وتسليم، وطاعة مبصرة يغذِّيها إيمان صادق وفهم عميق وتوحيد صاف لا يشوبه غبش أو تشويش. روى مسلم عن أنس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى نحو بيت المقدس، فنزلت الآية: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا…) [البقرة: 144] فمرَّ رجلٌ من بنى سلمة وهم ركوعٌ فى صلاة الفجر، وقد صلوا ركعة، فنادى: ألا إن القبلة قد حُوِّلتْ، فمالوا كما هم نحو القبلة)، إنها الاستجابة الفورية لله والرسول، وهذا لا يفعله إلا الهداة المهتدون؛ (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ…) [البقرة: 143]، ويستحيل ذلك على من فى قلوبهم زيغٌ من المتربصين والمنافقين. لمّا حوَّل المسلمون قبلتهم قالت اليهود: ترك قبلة الأنبياء من قبله، وقال المشركون: كما عاد إلى قبلتنا يوشك أن يعود إلى ديننا، وقال المنافقون: إن كانت القبلة الأولى حقًّا فقد تركها، وإن كانت القبلة الثانية هى الحق فقد كان على الباطل. ولو جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم بألف دليل ما اقتنعوا بغير ما صرحوا به؛ (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ…) [البقرة: 145]، وهذا هو المتوقع من هؤلاء فى كل حين؛ ما يؤكد أنه عداء دين وصراع حضارات وليس أمرًا آخر كما يدعون. لقد كان أمر التحويل اختبارًا لصفِّ المسلمين، نجح فيه المؤمنون، وفُضح فيه المنافقون؛ (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه…) [البقرة: 143]، وبان تغلغل العقيدة وتجذرها فى قلوب المؤمنين، وأنهم على خُطى الكتاب وهدى الرسول صلى الله عليه وسلم ما انحرفوا قيد أنملة، وحاشاهم أن يفعلوا، وها هم يصدقون الله حسبما أمر، مستمسكون بحبل طاعته، موقنون بما وعد ولو شكك المشككون ولمز المبطلون، فصدقهم الله، وكتب لهم الخيرات؛ (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) [البقرة: 143]. إننا -بهذه المناسبة- مأمورون بالاقتداء بهذا الجيل الفريد، جيل القبلة، المتأسين بالنبى صلى الله عليه وسلم فى أمره ونهيه، وصلاته ونسكه، وحربه وسلمه، ومحياه ومماته غير مبدلين أو مغيرين، وهذا سرُّ فرادة المؤمن، التى لا تتحقق إلا بأن يكون ذا شخصية مستقلة، وعقيدة راسخة وفهم رشيد وإيمان عميق، ولو خالفه الناس أجمعون، فلا يقبل التبعية أو الإمعية أو التنازل أو الانصهار.. إن هذا الجيل الذى أبهر الدنيا بكراماته وأنار صفحات التاريخ بمنجزاته لم يتردد فى اتباع النبى صلى الله عليه وسلم ولو فى عمل بسيط قد لا يلتفت إليه الكثيرون، لكنه الإيمان الذى يلزم صاحبه، حُبًّا وكرامة، باتباع الهُدى والاستجابة لله والرسول؛ (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285].. يُروى (أن النبى صلى الله عليه وسلم خلع نعلَيه فى الصلاة فوضَعهما على يَساره، فلما رأى ذلك القوم ألقَوا نِعالهم، فلما قضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: «ما حملكم على إلقاء نِعالكم؟» قالوا: رأيناك ألقيتَ نعلَيك فألقَينا نِعالنا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن جبريل -عليه السلام- أتانى فأخبرنى أن فيهما قذرًا».. فالفعل على بساطته يترجم كيف كان هذا الجيل فى سننه واتباعه، وهو ما يجب أن نكون نحن عليه. نسأل الله التوفيق.