في ظل خضوع سياسي كبير من أركان دولة السيسي واختيارهم دور النعامة والتصريحات الانبطاحية من السيسي إلى وزرائه واعلامه، تواصل إثيوبيا التصعيد ضد مصر، في ظل انكشاف الوهن الذي تتسم به سياساتها التي كشفت عنها الأحداث الأخيرة… فبعد أيام من عقد القمة الإفريقية المصغّرة، التي أعلنت فيها إثيوبيا انتصارها بإتمام الملء الأول لسد النهضة، عادت الخارجية الإثيوبية لتستفزّ مصر والسودان واستعراض عضلاتها الدبلوماسية عليهما، بتصريح أطلقه، مساء الجمعة، المتحدث الرسمي باسم الخارجية الإثيوبية، السفير الإثيوبي السابق في القاهرة، دينا مفتي، عن "بحث بلاده عن اتفاق يمكن مراجعته في أي وقت عندما تحتاج إثيوبيا إلى ذلك"، بدلاً من اعتماد اتفاق ملزم للجميع، حسبما جاء في القمة المصغّرة، التي فشلت القاهرة في تحقيق أي مكسب منها. وتداولت وكالات أنباء ووسائل إعلام مختلفة تصريحات مفتي، باعتبار أنه تحدث عن التوصل إلى اتفاق غير ملزم، بينما تعمّدت وكالة الأنباء الإثيوبية الرسمية "إينا" عدم الإشارة إلى مسألة الإلزام من عدمه، أو ثبات الاتفاق من عدمه، في محاولة معتادة للتعتيم على السلوك الحقيقي للسياسة الدبلوماسية لأديس أبابا وإطلاق تصريحات متناقضة أو مغايرة لبعضها، ليسهل التراجع عن أي منها. وقبل تصريحات مفتي ببضع ساعات، أصدر الاتحاد الإفريقي بياناً رسمياً عن حصيلة القمة المصغّرة، قال فيه بشكل واضح، وللمرة الأولى، إنه قد تم الاتفاق على الانتهاء من المفاوضات "بنصّ اتفاق ملزم" بشأن ملء وتشغيل سد النهضة، الذي ينبغي أن يتضمن اتفاقاً شاملاً بشأن التطورات المستقبلية على النيل الأزرق. وبذلك أصبحت القضية متعددة المستويات من ناحية تمييز طبيعة الاتفاقات ونطاقها؛ فهناك خلاف بين مصر وإثيوبيا على مدى الإلزامية "القانونية" للاتفاق على قواعد تشغيل السد، وهناك خلاف على مسألة تحديد آلية ملزمة لفض المنازعات بين الدول الثلاث، وهناك رغبة إثيوبية في أن تظل جميع قواعد الملء والتشغيل استرشادية، ويحق لأديس أبابا وحدها تغييرها بحسب حاجتها للتخزين. وما يضعف موقف مصر والسودان في هذه النقطة أن المبدأ الخامس من اتفاق المبادئ الموقع في مارس 2015، الذي يتحدث عن التعاون في الملء الأول وإدارة السد، يكتفي بالنص على التشارك في وضع "الخطوط الإرشادية والقواعد" من دون تفاصيل التشغيل، ويجيز لإثيوبيا إعادة ضبط سياسة التشغيل من وقت لآخر، بشرط "إخطار" وليس أخذ رأي أو استئذان مصر والسودان. وتستند إثيوبيا إلى البند الثاني من المبدأ ذاته، لتبرّر أن القواعد التي يجب الاتفاق عليها لا يمكن اعتبارها ملزمة بأي حال، لأنها موصوفة في الاتفاق بأنها "استرشادية"، فضلاً عن كونها غير مقتصرة على خطة واحدة يجب اتّباعها، فهي بحسب النص "ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد". ويحمل البند نفسه نصاً يؤيد الرؤية الإثيوبية، يتحدث عن "الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول لسد النهضة والتي ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد"، مما تعتبره إثيوبيا سنداً لها لإنجازها الملء الأول بالفعل، بالتوازي مع المفاوضات طالما لم يكتمل بناء السد حتى الآن. ويتضمن هذا المبدأ بنداً آخر تفسّره إثيوبيا لصالحها فقط، وهو "الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد التشغيل السنوي لسد النهضة، والتي يجوز لمالك السد ضبطها من وقت لآخر". وعليه ترى إثيوبيا أن مصر اعترفت بتوقيعها على هذا البند بالسيادة المطلقة لها على السد، وبالتالي ترفض مشاركتها والسودان في تحديد قواعد التشغيل طويلة الأمد، إلا في حدود التأكد من "عدم الإضرار"، باعتباره مبدأ منصوصاً عليه في الاتفاق ذاته. وبحسب تفسير أديس أبابا، فإن الإخطار المسبق "الوحيد" الذي تكلف به إثيوبيا ضمن الاتفاق هو "إخطار دولتي المصب بأية ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعي إعادة الضبط لعملية تشغيل السد بواسطتها". وكلها بنود تعد عارا في حق مصر، سبق وأن حذر منه المعارضون والخبراء والقيادات الوطنية.. وهو ما يطالب الكثيرون بإعلان مصر انسحابها من اتفاقية 2015، إلا أن السيسي الضعيف الخانع لا يقدر على اتخاذ قرار بهذا الشأن. وعلى الرغم من التشدد الإثيوبي، والانتصارات التي حققتها في القمة الاخيرة، الا ان البيان الختامي للقمة الافريقية، فتح الباب لمفاوضات "قد تكون طويلة الأمد"، تتضمن الاتفاق على قواعد الملء السنوي والتشغيل المستمر، وإعادة المحاصصة في مياه النيل الأزرق بين إثيوبيا والسودان ومصر، وإلغاء كل اتفاقيات تقاسم المياه السابقة، وعلى رأسها اتفاقية 1959. كذلك أتاح البيان مسألة التعامل مع المشروعات المستقبلية التي يمكن لإثيوبيا إنشاؤها على النيل الأزرق في المسافة الواقعة بين المنابع وسد النهضة، وهي النقطة التي أصرّت كل من مصر والسودان على أن تكون ضرورة الإخطار المسبق قبل فترة كافية واضحة فيها. وبحسب خبراء، فإنه بناء على الوضع الفني الحالي بالنسبة للسد، فإنه لم يعد هناك واقعياً ما يستدعي الإسراع أو السباق مع الزمن للتوصل إلى اتفاق، لأنه لن يكون هناك أي تغيير على خريطة الملء والتشغيل حتى شهر فبراير المقبل على الأقلّ، أي حتى تبدأ إثيوبيا في تجربة مولدات الكهرباء بتشغيل اثنين من التوربينات الخاصة بالتوليد في السد، وتقييم عملهما، تمهيداً لإتمام تركيب 11 توربيناً آخر، لحين الانتهاء تماماً من الأعمال الإنشائية في السد. وهكذا قاد السيسي مصر لأكبر هزيمة استراتيجية تهدد كيان الدولة المصرية، وسط تضليل إعلامي كبير للتهيد عن البحث عن بدائل، لتوفير مياه الصرف الصحي والماء المحلي، مع تشديد العقوبات على المواطنين بدعاوى الإسراف باستعمال المياه.. مطبقا سياسة "أسد عليّ وفي الحروب نعامة"…!!