عندما تضم مدينة يظن أهلها أنها مضطهدة جماهير متعصبة لفريق كرة قدم يلتقي نادي العاصمة وسط أجواء مشحونة على سكانها وضيوفهم أن يفهموا أنها أرضا خصبة لمؤامرة سيدفع ثمنها الجميع. وربما لو سأل هؤلاء أنفسهم هذا السؤال لما وصل بنا الحال إلى الانقسام الذي نعيشه الآن بين هتاف "الشعب يريد إعدام بورسعيد"، والهتاف الأخر "بورسعيد بريئة، دي مؤامرة دنيئة". ويبدو أن حالة "الأنتخة" التي نعيشها منذ فترة دفعتنا للحكم على الأمور من مجرد ضغطة زر في لوحة مفاتيح كمبيوتر منزلي، بل والدفاع بشراسة عن أحكامنا تلك دون محاولة البحث في بواطن الأمور وفهم سير الأحداث والاكتفاء بتصنيف الأحداث إلى حقائق و"فوتوشوب" حسب الأهواء. فإجابة السؤال تحمل ما يشفي غليل أصحاب الهتاف الأول وتُظهر من يستحق الإعدام في بورسعيد، وتثبت براءة أصحاب الهتاف الأخر بكشف أطراف جريمة مكتملة الأركان. هذه الإجابة تشتمل على أربع نقاط أحاول أن أنقلها لكم .. جمهورية بورسعيد في البداية يجب أن أنقل حقيقة ربما ستصدم البعض وهي أن ليس كل سكان بورسعيد البالغ عددهم أكثر من مليون نسمة من مشجعي المصري، وبالتالي ليس من العادل أن نحكم على كل بورسعيد بالإعدام بذنب من حضروا مباراة المصري والأهلي على فرض أن جميع من كانوا من المدرجات شاركوا في الجريمة. والأمر يشبه نظرة الغرب للعرب والمسلمين في أعقاب الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001 بالولايات المتحدةالأمريكية. في الوقت نفسه يجب الاعتراف بأن جميع مشجعي المصري من بورسعيد، لأن النادي الذي يحمل اسم المحافظة لا يتمتع بقاعدة جماهيرية خارجها ومن الطبيعي أن يكون كل من نبح صوته في الهتاف للمصري طوال المباراة من المدينة الباسلة. وتختلف عقلية مشجعي الرباعي المصري والإسماعيلي والاتحاد السكندري وغزل المحلة عن عقلية مشجعي الأهلي والزمالك بسبب ارتباط هذا الرباعي بمدن بعينها، في حين أن قطبي الكرة المصرية لهما جمهور من جميع محافظات مصر. فجماهير الفرق الأربعة تعتبر أن أي فوز يحققه فريقها يعود في النهاية إلى المحافظة التي يتبعها منذ عهود النظام البائد الذي أشعرنا أن التميز والتفوق لا يأتي إلا بالفوز في مباريات كرة القدم أو المسابقات الفنية. ولكن الأمر في بورسعيد يختلف عن أي محافظة أخرى بسبب شعور أهالي المدينة الساحلية أنهم شعب يعيش في دولة أخرى منفصلة عن الدولة المصرية، وهذا الإحساس ولده العزلة التي صنعها نظام مبارك ناحية بورسعيد. وعكس جماهير الإسماعيلي التي تميل لتشجيع الزمالك مع فريقها وجماهير الاتحاد التي تميل للأهلي، ترفض جماهير المصري تشجيع أي فريق أخر بجانب فريقها بالرغم كل ما يقال عن تفضيلها تشجيع الزمالك عن الأهلي. ومع العزلة التي يعيشها البورسعيدية وإحساسهم أن المصري هو منتخب بلدهم تكون المدينة الباسلة أفضل فريسة يستفاد من جثمانها في زيادة الانقسام وتصويرها على أنها "شيكاغو". جمهور متعصب ليس جديدا على مشجعي الكرة المصرية تعصب جماهير المصري والذي تنقله عدسات الكاميرات في كل مباراة على ملعب بورسعيد الذي يصعب على أي منافس الفوز عليه مهما بلغت قوته. وهذا التعصب أنماه السادة الإعلاميين الذين اهتموا بالضحك على عقول مشجعين تمثل مباراة كرة القدم لهم الوسيلة الوحيدة للترفيه عن النفس وصوروا لهم هذا التعصب على أنه ظاهرة صحية تساعد الفريق. وتعالت ضحكاتهم مع كل هتاف من نوعية "صور ذيع" أو عند رؤية لافتة حملت أسمائهم مصحوبة بلقب مزيف أطلقوه هم على أنفسهم. وهذا التعصب "الذي يجب أن يعترف به البورسعيدية" هو الذي سبب رحيل مختار مختار عن تدريب الفريق الموسم الماضي وليس البلطجية، وهو الذي سبب أيضا رحيل طلعت يوسف الموسم الجاري. ولذلك لم استعجب سعادة يوسف الذي كان مرشحا لتدريب منتخب مصر قبل تولي تدريب المصري عند رحيله من المصري ولم استغرب تصريحات عدد من لاعبي الفريق الذين تمنوا أن يلعب المصري مبارياته بدون جمهور بسبب التعصب الزائد عن الحد. ولي أصدقاء كثيرون من المدينة من مشجعي المصري يرفضون حضور مباريات الفريق في استاد بورسعيد بسبب جماهير المصري نفسها التي أيضا يخشاها أيضا مشجعو الفرق الأخرى من المدينة حضور مؤازرة فرقهم في مبارياتهم أمام المصري على استاد بورسعيد. ومن تابع الأجواء قبل مباراة الأهلي سيجد أن جماهير الفريقين دخلت في حرب كلامية وصلت إلى درجة تهديد عدد من جماهير المصري كل من يأتي لمساندة الفريق الأحمر في بورسعيد للقتل. وانتشرت أغنية حملت عنوان "لو جاي بورسعيد اكتب لأمك وصية". هذا الشحن الجماهيري الزائد عن الحد للمباراة لا يعدو أكثر من مهاترات لا تفيد وتحدث كل مباراة دون وقوع أي كوارث، ولكن من يخطط لمؤامرة لن يجد أفضل من هذه الأجواء. فالوضع قبل المباراة يشبه بالأفلام القديمة حين يستغل الطرف الشرير سذاجة بطل الفيلم في تهديد صديقه بالقتل عند حدوث خلاف تافه بينهما ليقتله و"يتدبس فيها" البطل المسكين الذي لم يختر ألفاظه. معادلة التوأم استقبل جمهور المصري الزمالك الموسم الماضي استقبالا عدائيا بسبب غضبه من تصريحات سابقة لحسام حسن المدير الفني للفريق الأبيض وقتها، وبسبب فوز المصري 2-0 تحول درع الدوري إلى الجزيرة. ولولا التحصين الأمني لما اختلف مصير جماهير الزمالك عن مصير الجماهير الحمراء. جماهير المصري التي أظهرت عداء واضحا تجاه فريق الزمالك الموسم الماضي بسبب قيادة التوأم للفريق هي نفسها من رفعت حسام حسن على الأعناق بعد الفوز على الأهلي في المباراة المشئومة. وهو يوضح الفارق بين جماهير المصري التي ارتضت بعودة حسن لإدارة الفريق لمجرد قيادة الفريق للانتصارات، في الوقت الذي لم ينس فيه أهل بورسعيد الإهانة التي وجهها التوأم للمدينة ورفضوا مؤازرة النادي بعد عودته. وبتولي التوأم تدريب الفريق البورسعيدي تزداد حبكة "التلبس"، فلم ينس أي مصري مشهد اقتحام جماهير الزمالك الموسم الماضي ملعب استاد القاهرة في مباراة الإفريقي التونسي في دوري الأبطال والذي كان أول حادث من هذه النوعية بعد الثورة وأتهم فيها التوأم. القبيضة القبيضة مصطلح معروف لدى إدارات الأندية الجماهيرية التي لا تحقق فرقها نتائج على مستوى طموح مشجعيها فتلجأ إداراتها إلى استئجار مشجعين للهتاف لهم وللاعبيهم في كل مباراة حتى يعلو صوتهم على المشجعين الغاضبين المطالبين بالإصلاح. هؤلاء يحملون مسمى أخر في أيامنا تلك هو "المواطنون الشرفاء". ويعاني المصري من القبيضة الذي استعان بهم الراحل السيد متولي رئيس النادي الأسبق للتعتيم على غضب جماهير المصري من صراع الفريق على النجاة من الهبوط في كل موسم. هؤلاء لم يجدوا الدعم من كامل أبو علي الرئيس الجديد للمصري والذي فضل دعم النادي بصفقات تعينه على المنافسة عن الدفع لهؤلاء لمدحه في كل مباراة فما كان منهم إلا أنهم حولوا هتافاتهم ضد الإدارة والأجهزة الفنية واللاعبين بعد أي خسارة. وتأثير هتافاتهم يظهر في استعانة المصري بسبعة مدربين في أقل من موسم ونصف بالرغم من تحقيق الفريق نتائج أفضل من فترات سابقة. وجود جماهير مأجورة تمنح تأييدها لمن يدفع أكثر في مدرجات مشتعلة لا يجب أن تستبعد معه إعادة لمشاهد تكررت كثيرا خلال الثورة على شاكلة موقعة الجمل. ملحوظة ربما لن يكون القبض على الجناة في هذه المذبحة البشعة كافيا لأهالي شهداء وشافيا لصدورهم ولكن الحكم على مدينة كاملة بالإعدام لا يقل ظلما عن ما أجترفه النظام السابق في حقها،ولا يصح أن يخشى مواطن مصري أن يقضي مصالحه في مدينة أخرى لمجرد أن بطاقته تحمل اسم بورسعيد. ولكن تمسك أهالي بورسعيد نفسهم بالقبض على هؤلاء المجرمين وتقديمهم للمحاسبة سيكون أفضل عزاء يمكن أن يقدمه البورسعيدية لمن سقطوا ضحية للخيانة وأفضل كيد يمكن أن يردوا به على أي مؤامرة دنيئة بدلا من ترديد شعارات جوفاء وهم يعلمون أن القتلة يعيشون بينهم وأن لم يكن منهم.