«لست من أولئك الذين يعيشون ويموتون دون أن يتركوا شهادة أو أثراً على مرورهم فوق هذه الأرض.. هناك تفاوت هائل بين عظمة مهمتى والإمكانيات العقلية المحدودة للصغار المعاصرين لى.. أنا أعيش فقط على الرصيد الذى أوليه لنفسى.. على إيمانى الكبير بذاتى».. هذه العبارات كتبها عن نفسه.. «فردريك نيتشه» الذى يعد أحد أهم الفلاسفة فى تاريخ الفكر الإنسانى.. وهى عبارات تعكس «بارانويا جنون العظمة» الذى جعله يتحدث دائماً عن عبقريته وتفرده كفيلسوف فذ ليس له مثيل.. ويبرز الأستاذ «مجدى كامل» مؤلف كتاب «شيطان الفلسفة الأكبر» أسباب ذلك الشطط والجموح الذى انتهى به إلى مصحة عقلية أنه لم يعرف الشهرة فى حياته على عكس ما نظن.. فكتاب الدرجة الثانية كانوا معروفين ويحظون بالتكريم بينما كان هو مغموراً تماماً. «والبارانويا أو هُذاء العظمة» هى حالة مرضية ذهانية.. يعتقد المريض بموجبها أنه شخص عظيم وأذكى من أى مخلوق فى العالم.. وقد يتصور أنه نبى من الأنبياء.. ولديه قوة خارقة أو سحرية لتغيير العالم.. وترضى هذه الهذاءات بشكلها الفاضح الشعور بالنقص لدى المريض. ولعل جنون العظمة الذى حدا ب«نيتشه» إلى التطرف فى كتاباته التى يحتقر فيها الشعب ويصفه بالقطيع بينما يمجد الأرستقراطية والنخبة ويؤكد أن الهدف من الحياة الإنسانية كلها ظهور «السوبرمان» -الإنسان الأعلى- أنبل النبلاء الذى لن يظهر إلا من الخاصة وبالتالى فإن كل دعوة إلى المساواة هى دعوة ظالمة تحط من شأن العظماء.. و«نيتشه» يشك فى كل العقائد التى مرت على البشرية إلى درجة تأكيده أن التدين المسيحى التقليدى قد انتهى فى أوروبا بعد انتصار العلم والفلسفة الوضعية فى القرن التاسع عشر.. أى فى عصر «نيتشه» نفسه. «جنون العظمة» ذلك هو الذى أدى إلى أن يحاول «هتلر» بكل الطرق السطو على شهرة «نيتشه» بعد موته.. فزار بيته.. وانحنى أمام صورته.. وأهدته أخته عصاه التى كان يستخدمها فى نزهاته.. واستلهم اتجاهه إلى النزعة النخبوية وتركزه على الأقوياء والأصحاء وكرهه للضعفاء والمرضى.. حيث إن «نيتشه» لم يكن يتردد فى فلسفته عن التضحية بملايين البشر إذا لم يكونوا أصحاء وأقوياء.. وهذا ما فعله «هتلر» تماماً.. الإعلاء من إرادة القوة وأخلاق السادة فى مواجهة أخلاق العبيد المستضعفين.. وإذا كان «نيتشه» هو أحد أنبياء «النازية» فإن «هتلر» هو القائم الملهم.. سيد الأسياد.. خلاصة الخلاصة.. كلامه مقدس وأفكاره وحى من السماء. ولكن لأن الإنسان حيوان «يقينى» وحيد وبحاجة إلى اعتقاد معين أو إيمان راسخ يعصمه من الضياع والجنون فهو بالتالى لا بد أن يشعر بالاطمئنان والثقة دون أن يتحول ذلك الإيمان الراسخ إلى نوع من التعصب المذهبى.. والتطرف الدينى.. لكن للأسف الشديد هذا ما يحدث غالباً.. وخير دليل على ذلك حالة «الأصوليين» أصحاب اليقين المطلق الذين لا يقبلون الاختلاف فى الرأى ولا يعترفون بالديمقراطية.. ويكفرون «الآخر» ويحلون دمه.. مثل أولئك الذين يجأرون بهتافات الكراهية.. وشعارات التحريض فى الميادين الآن: «قتلانا فى الجنة.. وقتلاهم فى النار». تطرف «نيتشه» وغرق فى العدمية والتشاؤم والراديكالية.. فصار وحيداً بلا أصدقاء.. ولم يتزوج.. وفى كل مرة كان يتقرب فيها إلى امرأة كانت ترفضه.. ووصل إلى مرحلة أعلن فيها حرباً شعواء على كل الناس.. وكل الأفكار.. فاقداً الحد الأدنى للتكيف مع البشر.. ونسى كيف يصبح إنساناً فصار يأكل فى وحدته وعزلته نفسه بنفسه.. وعبر عن ذلك فى رسائله إلى أخته قبل جنونه مردداً.. «إنى أشتاق إلى الكائنات البشرية وأبحث عنهم.. ولكنى دائماً لا أجد غير نفسى.. الآن لم يعد أحد يحبنى.. فكيف أحب الحياة؟!».