ربما لو رأيته دون زيه الرسمى.. وبشعر أكثر كثافة.. ربما لن يلفت نظرك على الإطلاق.. أو ربما تظن أنه طالب فى أولى جامعة، وربما يكون أقرب إلى طالب فى الثانوية العامة.. هو شاب صغير.. نحيل القوام.. هادئ.. رقيق الصوت.. ابتسامته خجولة مشبعة بالحياء مثل عينيه اللتين تشعان ذكاءً.. وكل هذه الصفات التى تطل عليك من أول نظرة.. تخفى خلفها شيئاً معجزاً.. طاقة مهولة.. إصراراً من فولاذ.. قوة صمود وتحمل.. إيماناً حقيقياً ضارباً فى أعماق نفسه.. شخصاً محيراً بكل معنى الكلمة. هو أدهم محمد الشوباشى، نقيب من قوات الصاعقة المصرية.. هو قائد كمين «أبوالرفاعى» فى الشيخ زويد بسيناء.. هوجم من التكفيريين فى 13 رمضان، الأول من يوليو عام 2015.. وكان يوم أربعاء.. بعد تولى المهمة قام باختيار اثنين وعشرين من خيرة الجنود قام بتدريبهم بنفسه ولمدة أربعة شهور استعداداً لمهمة إقامة كمين فى نقطة «أبوالرفاعى» والتى سميت هكذا نسبة إلى جامع مجاور بنفس الاسم.. توجه «أدهم» إلى سيناء ليراها للمرة الأولى فى حياته.. بدأ يهيئ المكان لإقامة الكمين انتظاراً لمعركة هى أيضاً الأولى فى حياته الصغيرة.. ساعات وجاءت الإشارة.. تم تفجير الجامع بالكامل، بدأت مراقبة من بعيد.. أيام قليلة وجاءت جحافل المعتوهين الملقبين بالتكفيريين تدق الكعب وتصيح صيحات قبائل المغول البدائية وهى تندفع للقضاء على «جيش الردة وجنود الطواغيت».. وبدأت المعركة منذ السابعة صباحاً وحتى الثانية ظهراً.. سبع ساعات كاملة والحرب دائرة بين ثلاثة وعشرين شاباً مصرياً تتراوح أعمارهم ما بين الثانية والعشرين والسادسة والعشرين، وهو عمر «أدهم».. هؤلاء الصغار الجبارون أمام أكثر من مائة وخمسين من التكفيريين الذين خططوا لضرب اثنى عشر كميناً من كمائن قواتنا المسلحة فى سيناء فى نفس الوقت، ثم يقومون برفع علم الدولة الإسلامية إيذاناً بميلاد ولاية سيناء تحت ظل الخلافة الإسلامية للدواعش والتكفيريين، كان كمين «أبوالرفاعى» هو النقطة المحددة لرفع علم الولاية، ثم إعلانها بسرعة على قناة «الجزيرة»، وال«سى إن إن» بالطبع، وبالتأكيد كان الاتفاق على قدم وساق مع الأخت الفاضلة الست كلينتون لتسرع بالاعتراف بالدولة الإسلامية وولاياتها، خاصة أغلى ولاية فيها «سيناء».. وبالطبع خلفها سوف تهرول دول الناتو إياها لتعترف بالولاية الإسلامية فى سيناء.. كان هذا المخطط منقولاً بالمسطرة من مؤامرة انسحاب دولتى الانتداب إنجلترا وفرنسا من فلسطين يوم 14 مايو 1948 ليعلن «بن جوريون» قيام الدولة اليهودية، وكان الرئيس الأمريكى روزفلت يضع أذنيه على الراديو، وأسرع بالاعتراف بالدولة اليهودية، وهرول الباقون خلفه، وتم دق الإسفين فى قلب الأمة العربية، وما زال على قلبها إلى يومنا هذا. جاء التكفيريون بقوة كبيرة؛ عدة وعدداً.. العربات، ومنها العربة المفخخة التى انفجرت على مشارف الكمين، مصفحة.. لا يخترقها الرصاص ولا المدافع نصف البوصة ولا حتى الكاوتش قابل للاختراق.. تحمل طناً ونصف الطن من المتفجرات، اقتربت أكثر حتى خرج لها جنديان من جنود القائد «أدهم».. أدخل أحدهما سلاحه فى الزجاج وقتل السائق، والآخر ضرب من الخلف.. انفجرت العربة، تحول «حسام» و«أحمد» إلى أشلاء وكانا أول الشهداء.. توالت الأسلحة مع التكفيريين لتضرب فى الكمين.. ال«آر. بى. جى.. الهاون.. الآلى.. الرشاشات.. القنابل».. قاد «أدهم» المعركة محاطاً بحب جنوده وتفانيهم فى الدفاع عن الكمين وإصرارهم على النجاح.. ساورهم بعض الخوف أحياناً.. وأصابتهم لحظات خاطفة من الصدمات.. أفاقوا منها بسرعة، تناثرت أجساد زملائهم أمامهم.. القناصة من عدة مواقع تضرب فى الرؤوس.. شظايا الهاون تطيح بأعضائهم.. فقد «أدهم» خمسة عشر من أبطاله وتبقى له سبعة وهو الثامن، أصيب فى وجهه وواصل.. ثم أصيب فى رجله اليسرى وواصل.. أصيب فى اليمنى فرقد على الأرض بلا حراك ينزف وما زال يلقى بالقنابل بيده، تحطم جهاز الإشارة فزحف لمدة ساعة ونصف الساعة حتى يلتقط المحمول إشارة صغيرة.. نجح فى الوصول.. صرخ يريد دعماً ونجدة.. جاءه الصوت متسائلاً: من أنت؟ قال: «أدهم».. لم يصدق القائد أن «أدهم» ما زال حياً.. فقد تم إبلاغ كل الجهات بأن الكمين بأكمله قد تم القضاء عليه عندما جاءت الدبابة لتحمل «أدهم» صمم على أن يسبقه «شهداؤه» أولاً وقبل المصابين.. ثم صمم أن يسبقه جنوده المصابون أولاً.. وعاد ينزف من كل مكان فى جسده إلى الحياة.. حاملاً نظارة «محمد» ومحفظتين وموبايل «سلامة»، استشهدا بجواره.. «عبدالرحمن» و«محمد» و«أبانوب»، الذى استشهد صائماً مثل زملائه، ومات محتضناً سلاحه وتخشب جسده حول السلاح لا يريد أن يفارقه.. ملحمة كاملة قادها «أدهم».. هذا الشاب الصغير العملاق.. إذا رأيته تأكد لديك الإيمان بأن مصر لن تسقط أبداً.