أتأمل مدهوشا تلك القنوات الفضائية، ومحطات الإذاعات المرسلة التى تنمو كالفطر فى سماء وطننا العربى السعيد، فتروعنى الكثرة، وتدهشنى زحمة الكلام، وأعيش لحظات من خيال علمى وكأن الأصوات قد اختلطت ببعضها فى حالة من الثرثرة الدائمة التى تغيب وعى الناس، وتثبت الأحوال على ما هى عليه من الثبات وعدم التغيير. أفكار، وأفكار أخرى مضادة.. حوارات زاعقة لا تفضى إلى شىء.. ومذيع يبدو مثل حكام مباريات المصارعة الحرة، وأنت تهتف لنفسك: «لا حول ولا قوة إلا بالله!».. قضايا مختلقة تليق بالكلمات التى أوجدتها.. وبشر أمام الكاميرات يجلسون كل يوم، يبدون مثل تماثيل الشمع فى المتاحف، يفتون، ولا يصدقون ما يقولون. يكثر الكلام، وتكثر المطالبة بالحرية والديمقراطية، والخروج من أسر الماضى، واستشراف مستقبل الأمة.. والبعض يتوجه للسلام، والآخر يطالب بالحرب والنضال حتى نعيد للأمة شرفها المهدر، ويشتد الصراخ، ويمضى الليل والنهار وكل شىء على حاله لا يتغير، فى مكانه ثابت ثبات الزمن، تختلط فيه البدايات بالنهايات ونعيش الحاضر بصياغات الماضى، فيما تتراجع الحرية، وحقوق الإنسان، ورؤية المستقبل بالرغم من كثرة المطالبة بها. هى ثقافة بلا معرفة.. ثقافة فقدت مصداقيتها.. حولها الإعلام إلى ثقافة الكلام، وأفرغها واقع يعيد إنتاج نفسه كل يوم، فى هذا الواقع يعيش المواطن ثقافة بلا معرفة.. ويعيش الكاتب أكذوبة حرية التعبير. ويمر كل يوم ونحن نشاهد السادة الضيوف وهم يتكلمون فى الشأن الليبرالى، والأحوال الاقتصادية، سعداء بالفصاحة وحلاوة اللسان ونسمعهم وهم يقولون: «تبدأ حريتى حين تنتهى حرية الآخرين».. وتدهشنا الثقة التى تنطق مثل هذه العبارات. تأكد المسئولون عن هذه الأجهزة أن المسألة ما دامت كلاما فى كلام إذن علينا أن نجلس أمام الكاميرات ونتحدث حتى الصباح، وما دام لا شىء يتغير وأنت فاهم وأنا فاهم فلا أحد من خارج «الميديا» يتمتع بأية حقوق، ووقع فى الشرَك وحده السيد المؤلف. هو الوحيد الذى ليس له مكأفاة عن كلامه، لأن المخرج والمعد وطاقم العمل ومقدم البرنامج والمنتج المنفذ قد وزعوا الميزانية وسقط من حسابهم الضيف صاحب الكلام واللسان الذَّرِب السيد المؤلف. وزعت الميزانية بالعدل من الوزير حتى الغفير، واستبعد بحمد الله الضيف المؤلف مطرودا بعيدا عن النعمة.. إنه المنسى بقصد.. يقف الآن أمام معد البرنامج ومقدمه يفرك كفيه بالعاً ريقه، رامشاً بعينه من تحت نظارته متنحنحاً هامساً بالسؤال: ■ هو مفيش مكافأة؟! وقبل أن يلفظها يقطع عليه مقدم البرنامج تفكيره صائحا فيه: - إحنا متشكرين جدا يا أستاذ.. نشوفك المرة الجاية. ثم يمد له يده مودعاً! يمضى السيد المؤلف خارجا من البلاتوه، حيث الهواء البارد، ثم المبنى حيث شوارع المدينة الحارة فى الصيف، لاعناً نفسه ومقدم البرنامج والتليفزيون والدولة التى يعيش فيها، ثم يبكت نفسه قائلاً: - إخص عليك تليفزيون.. ثم يستدرك: ■ أنا عارف أنا إيه اللى جابنى هنا بس؟ أتذكر أننى بذات نفسى وشخصيا تعرضت لهذه المهانة، فلقد ضيفنى أحد المحترمين من مقدمى البرامج العرب الذى أخذت بيده الأيام وأصبح وزيرا للثقافة فى وطنه المناضل ضد الاستعمار، وكان أيامها يقدم برنامجاً ثقافيا عن أحوال الثقافة والإبداع والحداثة وغايات النقد والكلام عن إصدارات الكتب الجديدة. تكلمت نصف ساعة من الكلام الموزون، الثقيل بالمصطلحات والجمل ذات المعنى، مثل الإبستمولوجى وعن منهج الكتابة وعن قواعد البلاغة فى نصوص كتابة جيل الستينيات، وحين انتهيت سألنى إن كنت قرأت رواية إدوار الخراط الأخيرة، وحين أجبته أننى قرأتها، طلب رأيى، وحين أعجبه استأذننى فى أن يصور هذا الكلام فأذنت له، وفى اعتبارى أن الحسّابة بتحسب.. وهكذا سألنى عن رواية إدوار وإبراهيم عبدالمجيد وميرال الطحاوى ورواية البساطى، وأنا أصور نفسى سعيدا جدا بالأمر وأن كل هذا الكلام سوف يترجم إلى أوراق مالية خضراء إن شاء الله بإذن علام الغيوب. انتهى التصوير وأنا أنتظر مكرمة الرجل، إلا أنه لم ينبس بحرف وعمل أذناً من طين وأذناً من عجين.. تشجع شخصى المتوتر وسألته: الله، هو مفيش مكافأة؟! انقلبت سحنته إلى سحنة متسول يشحذ على قارعة الطريق، وأخبرنى بعد أن أقسم بالله تعالى أن البرنامج إنتاج خاص يهتم بالثقافة الجادة المطلوب دعمها وسط برامج «هشك بشك»، و«أنكم أنتم المثقفون القادرون على تأدية هذا الدور»! همست لنفسى: «يعنى طارت المكافأة»، وتذكرت كمية الكلام الذى قلته فكررت على نفسى: «لله يا زمرى»، وتوجهت ناحيته وقلت من غير انفعال: «بالله العظيم يا شيخ لو أننى (فقى) أعمى يقرأ على المقابر سورة قل هو الله أحد لأعطوه كعكة»، ومضيت خارجا من البلاتوه البارد إلى حر القاهرة المريع.