من حسن الفِطَن أن يتعامل الأمن بجدية مع كل النذر، وأن يعطى الأهمية حتى للبلاغات التى يبدو من ظاهرها أنها كاذبة، فالحذر إزاء انتشار الإرهاب وانحسار الأخلاق واجب، وهذا الحذر هو الذى يدعو القائمين على أمن الطائرات والمطارات إلى تفريغ طائرة بأكملها لمجرد محادثة هاتفية أفادت بأن على الطائرة قنبلة أو متفجرات، ولا مراء أن ذات هذا الحذر هو الذى يدعو الأمن المصرى إلى التعامل بجدية مع الوعيد والنذير بأن 25 يناير المقبل سيشهد ما يطيب لأصحاب الأغراض أن يصفوه بأنه سيكون ثورة! بيد أن ما يضطر إليه الأمن من باب الحذر والاحتياط، لا يضطر إليه الفكر، فالفكر يتعامل بالمنطق والحجة والفهم والتحليل، وذلك كله ينفى ويدحض من الأساس مزاعم الثورة، فلا يوجد على الإطلاق ما ينذر بثورة، ولا بتجمع لثورة، ولا بغاية من الغايات التى تقوم عليها الثورات، ولا بصاحب صفة للقيام بهذه الثورة التى لا طحن ولا غاية ولا منطق لها، فالثورات لا تقوم لغرض ولا لمأرب، ولا لثأر أو انتقام، وإنما لأهداف شعبية كبرى، لا لجماعة ولا لفئة ولا لموتور أو موتورين، قد ينجح أصحاب هذه الأغراض فى عملية انتحارية، أو تفجير قنبلة، أو نسف مرفق، أو اغتيال أشخاص، أو ترويع الناس، إلاّ أن هذه الحماقات الإرهابية ليست من الثورات، وليس فيها أى سمة من سمات وغايات وأهداف الثورات! ما مرجعية اللغط والفشوش؟! ماذا يملك المثيرون لهذا اللغط أو «الفشوش»؟ والفشوش فى الفصحى هو التافه الذى لا طائل فيه، ولا وزن له، ماذا يملكون لإطلاق ثورة، والاضطلاع بها، وتمثيل من سوف يطلقون باسمهم هذه الثورة، وهم الذين خاصموا الشعب الذى لا تقوم ثورة إلاّ منه وتعبيراً عنه، بينما هم قد تربصوا بالشعب وآذوه أذىً عريضاً سالت فيه الدماء وفجرت المرافق والممتلكات، ورُوِّعَ الناس، ودُمِّرتْ فى سبيل أغراضه الصغيرة سبل الحياة؟! الثورات تقوم بها الشعوب، بينما أغراض المثيرين للغط الكاذب، تتجه ضد الشعب وأمان وحقوق ومصالح الشعب. كانت السنة التى حكموا فيها كفيلةً بأن توقظ من السبات كل من عساه يكون قد أحسن بهم الظن، وزادوا هذه اليقظة صحياناً منذ كشفوا فى أعقاب 30 يونيو عن منطق بغيض منفر: «إما نحكمكم أو نقتلكم!»، ولم يكن هذا المنطق منطق القتل محض «تهويش»، وإنما شهدت عليه تفجيرات دور العبادة، ونسف الجسور والمرافق ومديريات الأمن، وقتل الجنود وحماة الوطن، وتدمير أبراج الكهرباء، وزرع القنابل لحصد الأرواح، والتفجير عن بُعْد للقتل والترويع، ونشر الخراب والدمار، وإنذار الشعب بأنه لا سبيل لأمانه إلاّ أن يسلِّم لهم ويرتضى أن يعيدوا الركوب على أنفاسه ومصيره! فهل يمكن لمقارفى هذه الجرائم التى اكتفيت بالتلميح إلى بعضها، أن يتقدموا للقيام بثورة باسم الشعب الذى جنوا وتجنّوا عليه؟! ثم ما هى غاية هذه الثورة؟! الثورات ليست مظاهرةً أو تفجيراً أو عمليةً انتحاريةً أو إثارة فوضى، فهل غاية الثورة المنذورة أن يعود المتربصون إلى الحكم ويركبوا مرة ثانية على أنفاس الشعب ويهدموا الدولة الدستورية ويأخذوا البلاد إلى الهاوية التى يظنون أنهم بها يحسنون صنعاً؟! إن مقتضى القيام بثورة باسم الشعب، أن يكون القائم بها معبراً عن الشعب، وليس فى وسع أصحاب النذير أن يزعموا حتى لأنفسهم أنهم بعدما فرط منهم يمكن أن يعبروا عن الشعب صاحب الصفة الوحيد فى الثورة. فماذا غير طلب الحكم يمكن أن يكون مدداً للثورة المنذورة؟! إن الثورات لا تقوم إلاَّ لقيمٍ وغايات، فماذا غير الانقلاب والوثوب إلى الحكم، يملك المنذرون بالثورة من قيم وغايات تعطى الثورة معناها وأسبابها ووقودها؟! بناء أم هدم؟! تنهض الثورات لهدم مقترن بالبناء، وهما قرينان لا ينفصمان، فإذا كان ما صدر عن المتربصين على مدار عام فى الحكم يشهد عليهم بالإخفاق والفشل الذريع، فماذا عساهم يريدون هدمه الآن؟ وماذا عساهم يريدون بناءه الآن؟! لقد لبثوا فى الحكم عاماً لم يبنوا فيه شيئاً، وإنما هدموا وأمعنوا فى الهدم والتدمير، لا لشىء إلا استحواذ فصيلهم على أمور البلاد، فعبثوا بالقوانين، وبالمبادئ الدستورية، وبالقيم الوطنية، وتآمروا لهدم القضاء، وداسوا بأغراض ملتوية فى المحكمة الدستورية العليا لتقويضها، وعصفوا بالحياة البرلمانية وبتقاليدها، وعفوا عن أرباب العشيرة من المجرمين والجانحين والمحكوم عليهم فى أخطر الجرائم بالإعدام والمؤبد، وتمسحوا بشرعية لا يبالون باحترامها ويطأون مقوماتها كل يوم بالأقدام! الأمانة التى ضيعوها! ولاية الحكم أمانة، وهى أثقل الأمانات، وأول أركانها الأهلية والصلاحية والقدرة على حملها، ولكن هؤلاء المتربصين دفعوا إلى المشهد المرئى بمن لا قدرة ولا صلاحية له لحمل هذه الأمانة، وجىء به إلى دست الحكم ليكون «خيال مآتة» يحكم من ورائه مرشدٌ أقسم ذات خيال المآتة اليمين بمبايعته والولاء له، بينما هذا الحاكم الحقيقى من وراء الستار خارج البناء الدستورى والقانونى للدولة، ولا يمكن مساءلته عما يقرره ويفعله! لم يقتصر هجوم هؤلاء المتربصين بالقضاء على عزل النائب العام قوةً واقتداراً، ولا على محاصرة دار القضاء العالى ودور المحاكم ومجلس الدولة والدستورية العليا بالتجمعات وبالجنازير، ولا بإشعال النيران كما جرى لمجمعات محاكم شارع الجلاء وجنوب القاهرة وشبرا الخيمة، ولا على مهاجمة القضاء والقضاة بغير حق تحت قبة البرلمان بدعوى تطهيره، وإنما دبروا تفكيك المحكمة الدستورية، وأعدوا بليلٍ مشروعاً يتغيَّا هدم السلطة القضائية وتفريغها من قاماتها وخبراتها توطأة لاستحواذ فصيلهم عليها. وأفرط «خيال المآتة» المأتى به لدست الحكم فى إصدار قرارات عفو متتالية شملت فى سخاء غريب المئات من مجرمى العشيرة، عن أحكام بالإعدام والمؤبد والأشغال الشاقة، وعن جرائم وصلت للقتل والتخابر وتجارة السلاح وغيرها من أخطر جرائم العنف والإهلاك والتدمير، ومد هذا العفو إلى ما لا يزال قيد التحقيق خلافاً للقانون، للمصادرة على واقعة الهروب المقترن بالتخابر من سجن وادى النطرون! وليضيف هؤلاء المعفو عنهم المزيد من الترويع لمصر وشعبها! وصار الحاكم الخيال، حاكماً لحساب فصيله وعشيرته، لا لحساب مصر وشعبها! وعبث هؤلاء المتربصون بكل المبادئ الدستورية والشرعية، فأصدر رئيسهم فى أغسطس 2012 ما أطلق عليه أنه «إعلان دستورى» لا يملكه ولا يجوز له، ليعطى لنفسه سلطة التشريع، وخاصم بفصيله سلطة من سلطات البلاد، فحاصروا المحكمة الدستورية العليا، ومنعوا لأيام قضاتها من دخولها منذ 2 ديسمبر 2012 حتى لا يحكموا فى القضايا التى لا يريدون الحكم فيها! وضرب المتربصون اليوم، ورئيسهم بأمس، عرض الحائط بحكم الدستورية العليا القاضى فى 14/6/2012 ببطلان تشكيل مجلس الشعب من البداية، وشرعوا لفرض المجلس المنحل بالقوة تارة، وباصطناع باطل للقانون تارة، وناصبوا المحكمة الدستورية العليا عداءً لم يناصبها إياه الرئيس الأسبق مبارك رغم قضائها مرتين فى سنتى 1987 و1990 قضاءً أدى لحل مجلس الشعب مرتين لبطلان تشكيله، فانحل بلا عناد ولا شىء من العناد والمكابرة التى افتعلها رئيس العشيرة وعشيرته! ودبر رئيس العشيرة وعشيرته، تحت جناح مجلس الشورى المنذر بحله منذ حكم الدستورية فى 14/6/2012، دبر ودبروا لضرب الصحافة المصرية وتقويض أركانها ليستولى فصيلهم على مقدراتها! وأصدر رئيس العشيرة فى 21 نوفمبر 2012 ما أسبغ عليه للمرة الثانية أنه «إعلان دستورى»، لا يملكه ولا يجوز له، فحواه ثلاث كبائر: «أنا ربكم الأعلى»، و«قراراتى محصنة لا يجوز الطعن عليها أمام القضاء خلافاً لكل المبادئ الدستورية»، و«تحصين مجلس الشورى الباطلِ تشكيله، والجمعية التأسيسية الثانية الباطلة». وظَاهَر رئيسُ العشيرة الجمعية التأسيسية الثانية فى القيام بعمل باطل لوضع دستور باطل يُوضَع فيه ما يشاءون، برغم بطلان تشكيلها الذى ظهر جلياً وكشفه حكم الدستورية العليا فى 2/6/2013، وتَظَاهَر وعشيرته على استمرارها رغم الانسحابات والاستقالات التى بلغت ثلث عددها والذى صار بذلك أدنى من المباح، والتورط فى الزج إليها بأربعة عشر شخصاً لا يجوز ضمهم إليها لتعارض مناصبهم مع عمل الجمعية التأسيسية، وإتيانهم فى الليلة الأخيرة بأحد عشر شخصاً لإنقاذ ما لا يمكن إنقاذه، لينكشف بعد صدور مسودة الدستور أن هناك ثمانية وأربعين عضواً فى التأسيسية لم يوقعوا عليها! وما سلف قليل من كثير ضَيَّعَ به المتربصون الأمانة التى حملوها لعامٍ ففرطوا فيها هذا التفريط البغيض! فما عساهم يريدون اليوم بالترويج «الفشوش» لثورة فى الخامس والعشرين من يناير المقبل؟! ماذا عساه لا يعجبهم ويريدون هدمه؟! ليس فى وسع من يتصدى لتقييم الوعيد والنذير بالثورة، إلاَّ أن يحاول استقراء ماذا عساه لا يعجب المتربصين ويريدون هدمه أو إزالته إنجازاً للثورة التى يبشرون، أو ينذرون بها؟! هل يريدون إعادة تقويض الأمان واستئناف ترويع مصر والمصريين؟! هل يريدون إعادة إحياء المشروع المتواطأ عليه حول سيناء والمدفوع فيه ثمانية مليارات دولار؟! هل يريدون إعادة الفوضى والخراب والدمار، وتدمير أبراج الكهرباء ليعم الظلام الذى تجاوزته مصر فى زمن قياسى؟! هل يريدون نسف ما تحقق فى شق القناة الموازية لقناة السويس، وتخريب ما شُرِعَ فى إقامته حولها وفى شرق التفريعة من مشروعات؟! هل يريدون تقويض مشروع المحطة النووية بالضبعة، وما تحقق لكفالة إنجازه بتكاليف تسدد من حصيلته مستقبلاً بعد استكماله؟! هل يريدون ضرب الجيش المصرى ورد الأسلحة وحاملات الطائرات والطائرات والقطع البحرية والبرية التى تعززت بها قوته فى صفقات تاريخية ناجحة مع روسيا وفرنسا وألمانيا؟! هل يريدون سحب العضوية التى حصلت عليها مصر فى مجلس الأمن الدولى؟! هل يريدون المزيد من الخراب للموازنة المصرية الجارى جبرها بكل السبل، وإعادة السيولة لإزالة الحواجز بين العشيرة وبين أموال مصر العامة؟! هل يريدون هدم البناء الدستورى الذى تسعى مصر لترسيخه رغم كل المعوقات، لتعود إليها مكانة الدولة التى كانت لها عبر التاريخ؟! هل يريدون استئناف هدم القضاء، واستئناف أخونة الصحافة، واستئناف تقويض المحكمة الدستورية العليا؟! هل يريدون استئناف العبث الذى كانوا قد بدأوه فى برامج التعليم الابتدائى والثانوى لتكون فى خدمة العشيرة وأغراضها وأغراض فصيلها؟! هل يريدون إرجاع العربة إلى الوراء، وإعادة شد مصر والمصريين إلى أسفل؟! هى إذاً مظاهرة فوضوية لا ثورة؟! ليس فى وسع أحد أن يصادر على تفكير أحد مهما اشتط وجنح وانفلت، وبديهى فإن مآرب المتربصين هى التى تتحكم فى رؤيتهم وفيما يأملون تحقيقه، ولكنها رؤية كفيفة ضريرة، لا بصيرة لها ولا فطنة، وتصميم «العماء» عليها لا يعنى أنها يمكن أن تكون ثورة، أو أن تسفر عن ثورة.. قصارها إن أفلتت بعض أفاعيلها أن تثير بعض الإزعاج أو بعض الفوضى أو بعض الخسائر المتفرقة هنا وهناك! ولكنها بالقطع ليست ثورة! ومن المحقق فشلها فشلاً ذريعاً! ولعل الدرس الوحيد المستفاد من الإنذار «الفشوش» بها، أنه دال على أن هؤلاء المتربصين لا يدركون شيئاً من عِبر الماضى، ولا يستقرئون الحاضر استقراءً صحيحاً، ولا يستشرفون المستقبل استشرافاً فيه رؤية وفهم! بل هو يدل على أنهم لم يتعلموا شيئاً!!! ولو تعلموا لبادروا إلى الاعتذار للمصريين عما أنزلوه بهم، ولأعلنوا توبتهم والعدول عن الجرائر التى وقعوا فيها.. قبل 30 يونيو وبعدها.. فالتفكير فى ثورة، ولو من باب «التهويش»، برغم ما يحملونه من رصيد مظلم، لدليل الأدلة على أن نذيرهم «فشوش» أو من قبيل «الفنكوش» الذى يدل على ضحالة وانعدام رؤية إلى حد العماء الضرير!