هل دمعت عيناى بالفعل وأنا أتسلم نسخة من رواية «أنا حرة» لإحسان عبدالقدوس، والتى أهدتها لى الدار المصرية اللبنانية، داعية إياى لجلسة قراءة للرواية التى صدرت قبل عشرات السنين، أم أنه الشجن الشهير الذى يصاحب النوستالجيا وأنا أتذكر نسخ مكتبة مصر التى كنا نقرأها لنجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس، ويوسف السباعى ويوسف إدريس ومحمد عبدالحليم عبدالله وعبدالحميد جودة السحار، ودار المعارف التى كنا نشترى منها سلسلة (اقرأ)، وكتب طه حسين، وإصدارات الكومكس الشهيرة تان تان ولاكى لوك واستريكس، وروايات مصرية للجيب التى كنا ننتظر صدورها على أحر من الجمر؟ هل دمعت عيناى فرحاً بالذكرى، والتجربة المحترمة، أم ألماً لأن كل ذلك لم يعد موجوداً كما كان، وسط غياب (أو لو شئت الدقة تغييب) الدور الثقافى والتنويرى للدولة. أنا من جيل كانت نزهته السنوية فى معرض الكتاب هى الأفضل والأكثر استحقاقاً للانتظار، وقصور الثقافة تحتضنه بمنظومتها الشهيرة من مكتبة عامة وأنشطة فنية مختلفة تجعل الثقافة صالحة لأن تكون خبزاً يومياً، بل إن مهرجاناً مثل «القراءة للجميع»، ومشروعاً كمكتبة الأسرة واحتفالات شهيرة بأعياد الطفولة، يجعلنى أنحنى احتراماً لجهد السيدة سوزان مبارك بعيداً عن أى (سياسة) من أى نوع، فما الذى حدث؟ وأين اختفى كل ذلك؟ ولماذا غابت الدولة حتى نكاد نقول إنها لن تعود؟ أصبح المشروع الثقافى المصرى هشاً رغم كونه يزخر بعظماء بمعنى الكلمة، وبأدباء وفنانين كبار يثبتون أن مصر (ولادة)، لكن مئات، ولن أبالغ حين أقول آلاف المواهب دفنت حين غابت الدولة، وحتى حركة النشر فى مصر، التى تواجه، رغم كل محاولاتها للعودة والازدهار، مأزقاً حقيقياً، فى غياب تنفيذ القوانين أمام مافيا تزوير الكتب المعروفة للجميع والتى أصبحت تجد مكاناً لها فى معرض القاهرة الدولى للكتاب كل عام. نقول ذلك فى سوق نشر لم تعد تربح كما الماضى، وصارت الدور الكبرى هى القادرة على تعويض خسائرها، فيما تتمسك العديد من دور النشر بدورها التنويرى الذى تلعبه مهما كلفها الأمر من خسائر، فتستمر «ميريت» رغم عثراتها بدعم من محبيها الذين يقدرون لمحمد هاشم ما فعله فى سوق النشر، وتقدم «العين» نماذج روائية تنال العديد من الجوائز، وتتمسك دور النشر الشابة بطموحها لتقدم جيلاً مهماً من شعراء العامية الذين يثبتون أن الشعر يبيع ولا يباع، لنعرف أسماء رائعة مثل مصطفى إبراهيم ومايكل عادل ونبيل عبدالحميد وسالم الشهبانى ومحمد إبراهيم وعمرو حسن وأحمد النجار وضياء الرحمن، وغيرهم من الشعراء الذين لم يكتشفهم أحد، بعكس شاعر كبير مثل العم سيد حجاب الذى وجد صلاح جاهين يحتفى به أيام كانت روزاليوسف منصة إطلاق مواهب، ويتقافز وهو يقول: «بقينا كتير بقينا كتير»، وعلى عظمة تجربة عم سيد لم نر أعماله الكاملة حتى الآن، ولا حتى فى الهيئة المصرية العامة للكتاب التى أثق أن رئيسها الحالى د. هيثم الحاج على سيعيد ترتيب أوراقها، لكن أرجو أن يكون ذلك بأسرع وقت ممكن. تحدثنى عن السياسة وتسأل عنها، فأقول لك غياب الثقافة وتغييبها يجعل الإرهاب ينتعش، وغياب التشريع المحترم وإرادة التنفيذ تعيق الثقافة، وغياب الرؤية بحيث تكون الثقافة فى أيدى الموظفين وليس المبدعين يجعل المنظومة الثقافية فى الثلاجة مهما اجتهد وزيرها الحالى الكاتب الصحفى المحترم حلمى النمنم، فما بين قصور ثقافة تحتضر، ومكتبات عامة تتراجع، وأنشطة لا يسوقها أحد، وسلاسل لا يعتنى بها أحد، ومجلات رائعة، ومسارح مهجورة لا تجد دعماً من الدولة تموت الثقافة، وبدلاً من أن تصبح الغذاء اليومى للبسطاء كما كان، صارت مرادفاً للفزلكة والتنظير عند نفس البسطاء. الموضوع كبير ويستحق الكتابة مرات ومرات، والأمل فى دور نشر شابة مثل «دون وكيان والرواق والمصرى»، والتجارب التى تستحق الإشادة الحقيقية لمجهودها التنويرى الحقيقى سواء من خلال إصداراتها مثل «الكرمة» للنشر، و«الكتب خانة»، و«العربى»، أو من خلال الجهود الفردية التى يجب الاهتمام الأكبر بها مثل تجربة القراءة الثانية التى يقدمها الأديب حسن كمال. الملف سيظل مفتوحاً، فشكراً ل«آل رشاد» على شجونهم التى أثاروها بإعادتهم إحسان عبدالقدوس إلى الحياة.