قبل نحو شهر، أعلن مدير الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه أن «الشرق الأوسط الذى نعرفه انتهى إلى غير رجعة، وأن دولاً مثل العراقوسوريا لن تستعيد أبداً حدودها السابقة». كان «باجوليه» يتحدث فى مؤتمر بشأن الاستخبارات، فى جامعة جورج واشنطنالأمريكية، بحضور عدد من رجال الأمن وكبار الاستراتيجيين، حيث لم يعارضه أحد، بل على العكس تماماً، فقد أقر نظيره الأمريكى، مدير ال«سى آى إيه» جون بيرنان، ما ذهب إليه. لقد أكد «برينان» بدوره، خلال هذا المؤتمر، أنه ينظر إلى الدمار فى سوريا وليبيا والعراق واليمن فيزداد يقيناً أنه من الصعب جداً وجود حكومة مركزية فى أى من هذه البلدان يمكنها أن تفرض سيطرتها أو تحمى الحدود التى رسمت فى أعقاب الحرب العالمية الثانية. يبدو بالفعل أن تغيرات فارقة ستقع فى المنطقة العربية، وأن دولاً وطنية وأمماً كبيرة ستتفتت، وقد يتسع هذا الخرق فيشمل دولاً أخرى تبدو متماسكة وبعيدة عن المخاطر حتى هذه اللحظة. إن الدول التى تتعرض لخطر التفتت وفقدان السيادة الإقليمية كانت تحت أنظمة ديكتاتورية حكمتها بالقمع والفساد، لكن إصلاح تلك الدول شىء، وانهيارها وتحولها إلى ساحة للحرب الأهلية شىء آخر. وباستثناء العراق الذى سقط وأخذ طريقه للتفتت جراء الغزو الخارجى، فإن الدول الثلاث الأخرى تعرضت لحالة من حالات الاستهداف المنظم، أفضت بها إلى الحرب الأهلية، والتعرض للاختراق الأجنبى، وتهاوى السيادة الوطنية. لا يمكن أن نفهم تلك الحالة التى باتت فيها منطقة الشرق الأوسط من دون الرجوع إلى ما أعلنته كوندليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، فى عام 2005، عن تبنى مفهوم «الفوضى الخلاقة». ووفق ما أعلنته «رايس» آنذاك، فإن الإدارة الأمريكية مدعوة إلى تبنى استراتيجية إحداث الفوضى والدمار والاقتتال على أسس عرقية وطائفية فى المناطق التى تعيش تحت الحكم الاستبدادى، وصولاً إلى ترتيب أوضاع تلك البلدان وتحقيق الانتقال الديمقراطى فيها. يجب ألا نتجاهل أن شيئاً من «الفوضى الخلاقة» قد حدث فى كل من العراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، ومصر، وأن الفارق بين مسارات تلك الدول يتعلق فقط بحجم الفوضى التى ضربت كل دولة. فى العراق، كانت المسألة واضحة فى أعقاب الغزو الأمريكى، إذ تم تسريح الجيش الوطنى، وتفكيك عرى الدولة المركزية، ثم ذهبت البلاد إلى حالة ديمقراطية «كارتونية»، أنتجت وضعاً طائفياً بامتياز، هيمنت خلاله الأغلبية الشيعية على الأقلية السنية، فى ظل احتراب واحتقان أهلى، ما لبث أن تحول إلى حرب أهلية، حتى ظهرت «داعش». أما اليمن، فقد قامت حركة «أنصار الله» (الحوثيون)، ذات الارتكاز الطائفى، بتدمير المرحلة الانتقالية، عبر سيطرتها على الحكم بقوة السلاح، ما فتح الباب أمام التدخل الخارجى، ليضع البلاد على فوهة بركان. وفى ليبيا يجرى النزاع أيضاً بين جماعات تتبنى الإسلام السياسى، وترتبط بمنظمات إرهابية وذات تاريخ فى ممارسة العنف مثل «القاعدة» و«الإخوان»، ولا يبدو أن هناك أملاً فى استعادة الدولة. أما سوريا، فتعطى المثل الأوضح على تحول دولة مركزية وطنية علمانية متماسكة إلى ساحة للاحتراب الأهلى وصراع القوى الخارجية. يبدو أن الجماعات السياسية ذات الإسناد الإسلامى (سنى أو شيعى)، ومعها الجماعات الإرهابية التى تمارس العنف على أساس ديني؛ مثل «داعش» هى «حصان طروادة» فى هذا الإطار. لم تتحقق الفوضى الخلاقة فى أى دولة عربية من دون «داعش» أو «إخوان» أو «حوثيين» أو «احتراب سنى - شيعى». لا يمكن لمصر أن تشعر بأنها بمأمن من الانزلاق إلى سيناريو «الفوضى الخلاقة» من دون سياسات ناجعة للانتقال الديمقراطى الذى يحقق العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والنمو الاقتصادى والتماسك السياسى. ولن يمكن لخطط التفتيت و«الفوضى الخلاقة» أن تنجح إلا من خلال استغلال الأوضاع الطائفية والإسلام السياسى.