دقت أجراس الكنائس، ورفع الأذان «هنا القدس»، هنا المسجد الأقصى رمز كرامة المسلمين، هنا سيفتح التاريخ صفحاته مستكملاً ليسجل يوميات «انتفاضة ثالثة» تدق الأبواب، «انتفاضة السكاكين» كما يحلو للبعض أن يطلق عليها، لكنها انتفاضة لا تشبه سابقتيها، يفوح منها عطر الفتيات الشابات المزينات بخضاب الدم، يداً بيد إلى جانب شبابها، هو وعد الأرض، وعندما تعد الأرض يلبى أبناؤها، تملؤهم الحماسة ويفاجئونها بقصص بطولية تفوق الخيال تسطر بدمائهم الذكية. هنا فلسطين، لمن لا يعرفها، أرض فتية عصية على الرضوخ، مقبرة للمحتل، هى عبق التاريخ الطويل من التضحيات والمقاومة، دماء أبنائها عرق الأرض وملحها، يخبو لهيبها إلى حين، ثم يعاود الاشتعال، وقودها جيل جديد من الشباب الفلسطينى اليافع، الذى فجر الهبة الشعبية المتواصلة لشعوره باليأس من طريق الحل السياسى، والإحباط الشديد من الطبقة السياسية المتنفذة، فسارعوا إلى أخذ زمام الأمور بأيديهم متجاهلين كل دعوات التهدئة.. «هذا هو الطريق الوحيد للرد على الإسرائيليين، هذا هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين.. قالها أحد الطلاب المنتفضين مستدركاً: الإسرائيليون استولوا على الأرض، واليوم يستولون على المقدسات، فماذا بقى لنا؟ السلطة تفاوض منذ ربع قرن ولا نتيجة!!». لخص الشاب معاناة شعب، وكان لسان حال خمسة ملايين فلسطينى يعيشون فى الضفة الغربية وقطاع غزة حياتهم والعدم سواء، لقد عيل الصبر من صبرهم ولم يحصدوا سوى الحصرم بفعل العربدة الإسرائيلية، ذاقوا مرارة القتل والحصار والتهجير المستمر من بلداتهم وقراهم وسلب أراضيهم وحريتهم ومقدراتهم، ولم يعد هناك ما يخشون عليه. ربما لم ترق هذه الهبة لتتحول إلى انتفاضة عارمة، لأنها تواجه الانقسام فى البيت الفلسطينى، لكنها تشكل تحدياً كبيراً للسلطة الفلسطينية، وإسرائيل على حد سواء، فمن ناحية لا تخفى السلطة الفلسطينية قلقها من تدهور كبير يؤدى إلى انحسارها، وربما انهيارها، ومن ناحية إسرائيل فإن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذى كان ينفذ مشروعه الاستيطانى فى الأراضى الفلسطينية دون مقاومة حقيقية، بات اليوم أمام عمليات فردية وجماعية تحركها أطراف داخلية وخارجية، لتطالبه بحل عسكرى أو سياسى ليس فى متناول يده. هبّة الأقصى وقودها الشباب المقدسى، والتى سرعان ما امتد لهيبها إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، الشباب المقدسى يجد نفسه مهدداً فى ماضيه وحاضره ومستقبله، إسرائيل تشاركه مدينته، والآن تريد أن تشاركه فى مقدساته، أما الضفة الغربية فهناك قيادة سياسية أقرب إلى «خيال المآتة»، قيادة سياسية عاجزة رمادية اللون باهتة، غير قادرة على المواجهة والحسم فى ظروف استثنائية تمر بها القدس ومقدساتها على نحو خاص. أكثر ما يميز هذه الهبة الشعبية أو «انتفاضة السكاكين» هو الوجود المكثف للمرأة والشابات الفلسطينيات، فقد اختلفت أدوارهن كثيراً عن أدوارهن فى الانتفاضتين الأولى والثانية التى لعب فيها الرجال دوراً أساسياً فى التظاهرات والمواجهات العنيفة، بعضهن ملثمات يتشحن بالكوفية الفلسطينية، وبعضهن يرتدين ملابس عصرية، وبعضهن يرتدين لباساً طويلاً، هؤلاء هن طالبات الجامعات، وجيل المستقبل، نساء قويات الإرادة، غير مستعدات لترك منصة الانتفاضة الشعبية ليعتليها الشباب فقط كما كان فى الماضى، خرجن لنقاط التماس، ويواجهن جيش الاحتلال ويلقين الحجارة ضد قوات الجيش ورجال الأمن الإسرائيلى دون خوف أو تردد، «لقد انتهى عصر جلوس النساء فى المنزل، هذه الأيام تثبت أننا قادرات على فعل ما يفعله الرجال».. هكذا عبرت إحدى الفتيات المتظاهرات الملثمات، وفى يدها حجر.