الوجود والنشاط العسكرى الروسى غير الاعتيادى فى سوريا ينبئ بتغير مهم فى الأهداف المباشرة لموسكو فى سوريا. روسيا لاعب رئيسى فى الأزمة السورية، وتغير سياستها تجاه هذا البلد يشير إلى أن الأزمة السورية مقبلة على منعطف جديد ما زالت ملامحه غير واضحة. هل مقامرة موسكو بدفع طائرات قتال ومدرعات وناقلات جنود إلى الأرض السورية إجراء دفاعى أم هجومى من جانب موسكو؟ هل الأهداف التى تسعى موسكو لتحقيقها عبر استخدام قواتها المسلحة تكتيكية أم استراتيجية؟ الوجود العسكرى المتزايد لروسيا على الأرض السورية يوحى بنوايا هجومية، لكن حجم القوة الروسية التى تم دفعها إلى سوريا أقل من أن يحدث فرقاً فى الصراع الدائر على الأرض هناك. وجود عدد من الطائرات الحربية ضمن القوة الروسية متزايدة الحجم فى سوريا يوحى باحتمال لجوء روسيا لاستخدام قوتها الجوية لتوجيه ضربات لمواقع المعارضة، خاصة المعارضة المتطرفة الموسومة بالإرهاب، المتمثلة فى تنظيمى «داعش» و«جبهة النصرة». تشكل التحالف الدولى ضد إرهاب «داعش» بقيادة الولاياتالمتحدة فى أغسطس من العام الماضى. شنت طائرات التحالف الدولى مئات الغارات ضد مواقع «داعش» فى العراق، لكنها أظهرت تردداً كبيراً فى شن غارات مماثلة ضد مواقع التنظيم فى سوريا. أعضاء التحالف الدولى لمكافحة الإرهاب ممزقون بين الرغبة فى محاربة «داعش» والرغبة فى إسقاط نظام الأسد، وبينما يرغب التحالف فى توجيه الضربات للتنظيم الإرهابى، فإنه يتخوف من أن تؤدى هذه الضربات لتعزيز موقف نظام دمشق، والمحصلة هى الامتناع عن بذل جهد ذى بال فى محاربة «داعش» على الأرض السورية. استخدام الطيران الروسى لضرب «داعش» فى سوريا يخدم نظام دمشق مستفيداً من الشرعية السياسية التى يوفرها التحالف الدولى ضد «داعش» حتى لو جاءت الضربات السورية بغير تنسيق مع التحالف الدولى. غير أن هناك وجهاً دفاعياً محتملاً للنشاط العسكرى الروسى على الأرض السورية. ففى الأسابيع الأخيرة أعلنت فرنسا وبريطانيا عن نيتهما مد نطاق العمليات العسكرية ضد «داعش» إلى الأرض السورية، وقامت طائرات الدولتين بعدد محدود من الطلعات الجوية فى السماء السورية. السياسة الجديدة لباريس ولندن توحى بتغير فى الموقف الغربى، وتشير إلى السقوط التدريجى للتحفظات الغربية تجاه العمل العسكرى فى سوريا. وبقدر ما يمكن تفسير هذا التحول باعتباره تخلياً عن التحفظ الغربى للعمل ضد «داعش» سوريا خوفاً من تعزيز موقف النظام السورى، فإن هذا التحول يثير فى الذاكرة الروسية خبرة التحالف الدولى فى ليبيا عندما حولت القوى الغربية ما بدأته كعملية عسكرية لحماية المدنيين الليبيين إلى جهد عسكرى نشط انتهى بالقضاء على نظام القذافى، وهو ما لا تريد روسيا تكراره ثانية فى سوريا. الوجود العسكرى الروسى النشط فى سوريا فى ظل هذا السيناريو هو نوع من الجهد الاستباقى لمنع القوى الغربية من العمل على إسقاط نظام الأسد عبر التدخل العسكرى المباشر، ولإبقاء التدخل العسكرى الغربى فى سوريا فى حدود محاربة الإرهاب. قد تستهدف موسكو من وراء وجودها العسكرى المتزايد فى سوريا مجرد الحفاظ على الوضع الراهن ومنع حدوث تغيرات جوهرية فى قواعد الصراع الدائر هناك حتى يحين وقت تسوية مناسبة للأزمة السورية. يندرج تحت هذا العنوان العريض العمل على منع القوى الغربية من تغيير سياساتها فى سوريا بشكل انفرادى، بما فى ذلك تغيير موقفها من «جبهة النصرة»، كما توحى تحركات غربية أخيرة اتجهت لاعتبار «الجبهة» حليفاً محتملاً فى الحرب ضد «داعش» وضد نظام الأسد فى الوقت نفسه. ويندرج تحت هذا العنوان أيضاً إمكانية استخدام القوات الروسية من أجل منع مزيد من التدهور فى موقف نظام الأسد الذى لم يعد يسيطر على أكثر من عشرين بالمائة من أراضى الدولة السورية حتى يحين وقت مفاوضات محتملة. غير أن الوجود العسكرى الروسى المتزايد فى سوريا قد ينطوى على تغيير كبير فى الاستراتيجية الروسية. فسيطرة نظام الأسد على البلاد فى تراجع مستمر، ولا يبدو النظام قادراً على استعادة ما خسره من أرض فى شمال وجنوب وشرق البلاد ووسطها، ولم يبق النظام مسيطراً سوى على الساحل السورى ذى الأكثرية العلوية فى الغرب، بالإضافة إلى العاصمة دمشق وبعض الطرق الواصلة بينهما. فهل أيقن الروس أن نظام الأسد لم يعد قادراً على استعادة السيطرة على سوريا، وأن أقصى ما يمكنه القيام به هو التراجع إلى منطقة ساحل المتوسط التى يتمتع بين سكانها بتأييد كبير؟ على أن يجرى النظر بعد ذلك ما إذا كان يمكن للنظام التفاوض من قاعدته الجديدة على شكل سوريا المستقبل ودوره فيها، أو ما إذا كان إعلان دولة الساحل العلوية المستقلة هو المآل بعد أن تنفجر سوريا إلى عدة دويلات. المؤكد هو أن العسكرية الروسية ستلعب دوراً نشطاً فى سوريا فى الفترة المقبلة، وأن الدعم الروسى لنظام الأسد على وشك تجاوز مرحلة الدعم السياسى والدبلوماسى والإمداد بالمعدات الحربية والذخائر للدخول إلى مرحلة جديدة تساهم فيها العسكرية الروسية بشكل مباشر فى تشكيل الوقائع على الأرض. فالطائرات الحربية الروسية الموجودة الآن فى سوريا ليست فى استراحة أو رحلة تدريبية، وقطع الأسطول الروسى المنتشرة أمام الساحل السورى ليست هناك فى مهمة روتينية بلا أغراض استراتيجية. فى هذا السياق طلبت موسكو من واشنطن تنسيق الأنشطة الجوية فوق سوريا لتجنب الحوادث غير المقصودة، وفى الطلب إيحاء بأن طائرات روسيا توشك على التحليق بكثافة فى الأجواء السورية. ولكن لأى هدف؟ هذا هو السؤال الذى تحتفظ موسكو بإجابته.