البحر أمامهم والعدو يحاصرهم من الخلف وفى المواجهة، ليس لديهم سبيل إلا الدخول فى ظلماته، يبحثون عن لقمة عيش مغلفة بطلقات الرصاص، يعلمون أن الموت أقرب إليهم من الشباك التى يقبضون عليها، وأن صيد البشر لدى العدو أسهل مئات المرات من اصطيادهم الأسماك فى بحر غزة. كيلومتران هى المسافة التى يقطعها «أدهم أبوريالة» يوميا من منزله المتواضع ب«معسكر الشاطئ» فى اتجاهه إلى ميناء «غزة»، فى تمام الرابعة فجرا يشخص بصره صوب السماء راجيا من الخالق أن يزيد رزقه وأن يُبعد عنه شرور القتلة، 3 أميال فقط هى مسافة الإبحار التى تسمح بها «إسرائيل» للصيادين، ورغم أن تلك الأميال لا توجد بها أسماك بشكل كاف يرضى الصيادين فإن جنود الاحتلال يطلقون الرصاص فوق الرؤوس حتى لو تم الالتزام بالمسافة المحددة، 4 شهداء سقطوا جرّاء البحث عن الرزق «حتى لو صابونى ع الجنة إنشاء الله».. بضحكة واثقة يقولها «أبوريالة»، الرصاص ليس العائق الوحيد هنا؛ فالتضييق هو سمة «اليهود»، كما يقول الصياد الشاب، السفن والشباك تتم مصادراتهما باستمرار دون سبب واضح، نحو 50 مركبا تقبع داخل الميناء، إلا أن أكثر من 35 منها لا تبحر بعدما مل أصحابها الرزق الضئيل، علاوة على التكاليف الباهظة التى يتكبدونها (المركب ب12000 شيكل -الدولار يساوى 4 شيكل تقريبا- وماكينة المركب ب6500 شيكل والشباك ب7000 شيكل)، والد «أدهم» يعاونه فى بيع الأسماك فى السوق وفى بعض الأحيان ينهى الشاب العشرينى عمله قبيل غروب الشمس ويبيع البضاعة بنفسه، طين البحر يملأ ملابسه لحظة جمعه للشباك عقب الفروغ من العمل، يساعده «رمزى الكومى»، صاحب العشرين ربيعا، الذى كان يعمل خياطا، لكن إغلاق المصنع بعد الحرب على غزة فى 2008 جعل اختيار الصيد تحت الرصاص حله الوحيد «كلها مش فارقة.. موتنا ولا عيشنا بنسيبها على الله»، «رمزى» هو العائل لأسرة مكونة من 16 شخصا يساعده شقيقه الأصغر ببيع الخضراوات فى سوق غزة. بعد معاهدة «أوسلو» كانت المسافة المسموحة للإبحار هى 12 ميلا، ثم تم تخفيضها ل6 أميال، وبعد اختطاف الجندى الإسرائيلى «جلعاد شاليط» قُلصت المسافة ل3 أميال فقط، فضاق عليهم البحر بما رحب، «أدهم» المتزوج «طازة» -حسب تعبيره- فكر غير مرة أن يحمل سلاحا لقتل جنود الاحتلال المتغطرسين، بينما يوقف عزمه يقينه باستهدافه على الشاطئ بمجرد تفكيره فى الخطوة بفعل أجهزة الرادار، «الميناء» لا يُبحر فيه سوى مركبات صغيرة للصيد؛ فالسفن الكبرى ممنوعة من الدخول، على باب المكان يظهر نُصُب تذكارى كبير مهدى إلى أرواح شهداء سفينة «مرمرة» التركية التى حاولت فك الحصار قبل أعوام دون جدوى. طيور النورس تحلق فى الأفق، وأصوات الرصاص تدوى بشكل متتابع، واضعا يده على خده جلس «عبدالله الفصيح» مرتديا بنطالا قماشيا وكذلك القميص وكأنه موظف حكومى، مهنة الصيد المرتبطة بالصبر شربوا منها «الأمرّين» حسب الرجل الثلاثينى، منذ نعومة أظفاره وهو يصارع الأمواج مع والده، سنوات نال فيها الرزق الوفير قبل أن تنقطع أوصاله، المسافة المسموحة يقطعها فى 10 دقائق، رغم ارتباطه الشديد بالصيد يتمنى أن يجد عملا مغايرا: «لو حد شافلى وظيفة زبال فى البلدية أقلع هدوم البحر على طول»، تلمع عينا الرجل وهو يحكى عن دخله الذى لم يتعد 60 شيكل طيلة ثلاثة أشهر بسبب مركبه العاطل والرزق الذى يستحيل مصائب، يجلس قبالته «عم إبراهيم» يحيك شبكته المهترئة بسبب الأحجار التى تحتك بها قرب الشاطئ فعمق المسافة المتاحة قصير جدا، الشمس توشك على المغيب فيلملم «أبومحمد» أطراف جلبابه مستعدا للرحيل، الرجل السبعينى يعمل فى البحر منذ 60 عاما يحكى بأسى عن «سنوات العز» وقتما كان دخل الصياد شهريا 12000 شيكل: «اليهود شغلتهم يضايقوا الناس.. بيسكّروا (يغلقوا) أى مصدر رزق لينا»، الشعيرات البيضاء التى تملأ خديه توحى بخبرة السنين، الرجل المولود لأم مصرية يطلق زفرة حين تجول بخاطره لحظات إبحاره من غزة إلى دمياط قبل أن يصير المسموح لأهالى القطاع الصيد على الشاطئ وتحت دوى الرصاص.