كان عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) أكثر الخلفاء الراشدين حرصاً على أن يطمئن إلى حسن معاملة ولاته للرعية فى بلدان المسلمين المختلفة، فقد كان هذا شغله الشاغل، وكثيراً ما سمعنا عن قصص له تحديداً يفصل فيها بين الولاة والرعية.. فكان أن خطب فى الناس يوماً قائلاً: «ألا إنى -والله- ما أرسل عمالى إليكم ليضربوا أبشاركم (يقصد الولاة) ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلِّموكم دينكم وسُنَّتكم؛ فمن فُعِل به شىء سوى ذلك فَلْيرفعه إلىَّ، فوالذى نفسى بيده إذاً لأقصنه منه». فكان من الجالسين يومئذ سيدنا عمرو بن العاص، فلم يرضَ أن يفتح «عمر» باب الشكوى من الرعية بهذه الطريقة التى يمكن أن تقلب عليه الطوائف من المسلمين وغير المسلمين، فقام «عمرو» رضى الله عنه، قائلاً: «يا أمير المؤمنين، أَوَرأيت إن كان رجل من المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته، أئنك لمقتصه منه؟». لم يكن هذا الحوار ليحدث مع خليفة آخر، ولا فى زمن آخر، فوالى أحد البلاد مثل عمرو بن العاص كان سيأتمر بأمر خليفة المسلمين، حتى وإن لم يرضَ ببعض ما يقول، كان سيصمت احتراماً له، وليعاتبه عتاباً رقيقاً وهم فى خلوة، ولكن عمرو بن العاص كان يملك من الشجاعة ليستفهم من أمير المؤمنين جهراً أمام الناس ما راعه. الطريف أن «عمر» رضى الله عنه قد أجابه: «إى والذى نفس عمر بيده إذن لأقصنه منه، أنَّى لى لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه؟ ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفِّروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم». لقد أحرج «عمر» واليه أمام الناس، وهو مَن هو القائد الفاتح صاحب الانتصارات، لقد صرح «عمر» بما يقصده علناً دون أن يخشى غضب عمرو بن العاص منه، فحقوق الرعية لها الأولوية لديه..!! لقد وضع «عمر» القاعدة الذهبية: أن لا فضل لحاكم على محكوم، إنما هى أدوار يؤديها كل منهم تجاه المجتمع، فإن أصاب كلاهما صلح المجتمع، وإن ضل أحدهما وجب على ولى الأمر أن يقتص منه لحساب الطرف الآخر، حتى تستقيم الأمور. رحمك الله يا «عمر».. وللحديث بقية إن شاء الله.