ما المجتمع الذى تتحول حياته فجأة ويصبح أسيراً للدراما الرمضانية ويصبح الاهتمام الزائد بها أحد همومه الكبرى؟ وما المجتمع الذى يحجز مقعده فى مقهى الكلام طوال العام وأفعاله تؤكد أنه يحب الكلام حباً جماً وشهيته مفتوحة دائماً على الجدل والثرثرة والنميمة وإبداء الرأى وكأنه فيلسوف، بينما نفس الشهية أبوابها موصدة أمام الإنتاج والعمل؟ يبدو أن للحياة داخل أسوار الكلام، سواء فى الحياة الافتراضية والعوالم الإلكترونية أو المقاهى والكافيهات، مذاقاً مختلفاً، حيث لا توجد حدود للمفاهيم والقيم وكل مناسبة ترتدى قيمة تتناسب مع اللحظة والحدث، والمثير أن الملل من الحوارات لا يصيبنا أبداً، وأفعالنا تؤكد أننا مبدعون فى الركض فى سباق مفتوح على حالة كلامية دائماً متوهجة، أما حالة العمل فهى خافتة. فى رمضان تشتد السخونة ويبدأ الاهتمام الشديد بالكلام عن المسلسلات وبرامج المقالب سخية الابتذال ولكنها تسجل أعلى نسب مشاهدة وبالتالى يرتفع مؤشرها فى بورصة الإنتاج وبورصة الكلام، المشاهد يتذمر منها وهو يعلم قبل أن يراها مستوى التدنى، والضيف يعلم ولكنه أمام سطوة المال يضعف، والمجتمع أول من يخسر. ونحن لا نكتفى بهذا الحد من التخمة المرسلة إلينا من شاشات التليفزيون فنبحث عن حوارات وأحداث أخرى تبقى على أشدها وسخونتها فنجد هناك اهتماماً وقصة وحواراً حول موضوعات لا تهم سوى أصحابها ولا تحتاج كل هذا الضجيج والافتعال.. قصة أحمد موسى وأسامة الغزالى حرب نموذجاً، التى تحولت إلى موضوع الساعة، وهناك حملات للحشد والتضامن، والبعض استغلها فرصة ذهبية لإعادة التنابز بالثورات وإعلان كل الكراهية والذم فى 25 يناير التى ينص الدستور على أنها ثورة احتراماً للأنقياء الذين فعلوها وليس فيمن تاجر بها واستثمرها وسرقها، وأياً ما كان الموقف منها فلا يجوز أن تكون ساحة للمعارك وعنف الألفاظ وعنترية السب والقذف. للأسف أسلوب الحوار فى مصر سواء فى الإعلام أو مواقع التواصل أو فى الشارع أسلوب يجافى الرقى ولا يعترف بالاحترام. وكل طرف يرى نفسه على حق ويمتلك الحقيقة.. قصة «موسى وحرب» لم تكفِ، فالشهية تعانى من الشره دائماً وفى حالة ظمأ إلى الجديد من الجدل والانشغال بالكلام، فأمامنا متسع من الوقت نهدره ونستهلكه ونصبح ظواهر كلامية فيهدرنا التحضر، وقصة أحمد شفيق وسامى عنان دخلت إلى بورصة الكلام ليدلو كل من له رأى فيها ويأخذ حقه فى الفلسفة واستعراض ما ليس فيه. نحن أثرياء الكلام نركب قطاره السريع وندهس العمل فتدهسنا الحضارة التى تواصل بسرعة الطائرات إنجازاتها، بينما نحن نبدع فى إهدار الوقت والجهد والطاقة فيما ليس لنا فيه منفعة ولا توجد إشارات عمل كما ينبغى أن يكون، ولأن البحث عن فضيحة وثرثرة ونميمة وصناعة مواقف أصبحت عادة أصيلة رأينا حملة إيجابية مثل «شفت تحرش» تصاب هى الأخرى بأمراض المجتمع وتنزلق فى الخيبات الصغرى وتتهم عمرو يوسف بالتحرش فى أحد الإعلانات الرمضانية، فهل نحن مجتمع مريض بالخواء ونعيش فى فراغ نتباهى بالوجاهة وبالعمق والفراغ حفرة نقع فيها جميعاً ثم نبحث عن حادثة ما أو حوارات وموضوعات بلا هدف وبلا نتيجة ونفاخر بما نصنعه من كلام وما نبديه من آراء أغلبها لا بد من إخفائه ولكننا نباهى باللاوعى والسطحية؟ وما إن تنتهى قصة بكل ما ضخمنا فيها نبحث عن أخرى لتبقى سحابات الدخان الكلامية كثيفة لتسيطر الحالة الضبابية ولنبقى مجتمعاً لا يتحرك للأمام وإذا كانت هناك محاولات فهى متعثرة وحتى يكون المجتمع متسقاً مع عدم وعيه فنرى اللاموضوعية عند الحديث عن مسلسل «حارة اليهود» على اعتبار أنه مسلسل صنع لنحب اليهود. وبالتوازى أيضاً ينشغل الناس بما قامت به مواقع التواصل فى نشر جملة لوزيرة السكان تهدد فيها بالشبشب، وأياً ما كانت صحة الواقعة والجملة سواء كان ما تردد به فيه جانب من الصحة أم يفتقد الدقة فهى أشياء تؤكد أننا مجتمع عاشق للنميمة ولا يكتفى بقصة واحدة. فقصة واحدة لا تكفى، نحن نشترى الانشغال بما لا يفيد بالتقسيط المريح وطاقة الكلام وصنع حالة جدلية كلامية مثيرة إن لم نجدها لاخترعناها، فهذه الطاقة تبدو وكأنها نضجت على مهل، وأصبحت هذه الشهوة الجامحة مستبدة بنا متسلحة بالعافية والعنف وليتها كانت جامحة ومستبدة وتمتلك العنف والعافية تجاه العمل والإجادة والجدية نحن نبالغ فى عشق الجدل والفتى كما الطغاة. نبالغ عندما نحب ونبالغ عندما نغضب. نحن نستبدل الكلام بالكلام وليته كلاماً طيباً. الدولة تحارب الإرهاب ونحن نصنع إرهاباً آخر نمارسه جميعاً ضد أنفسنا وضد بعضنا البعض وضد الوطن. عندما نقدم للوطن حالة كلامية زاهية وباهظة ونبخل عليه بالجدية والإجادة والعمل والتنوير فهذه الحالة تصبح أسلحة دمار شامل، فكلنا يحمل أسلحة دمار المجتمع فى لسانه وأفعاله، أما العمل فموجع لنا وموجوع منا والانشغال بتوافه الأمور مكيدة وطعنة نغرسها كل لحظة فى جسد الوطن الذى يلزمه إعادة إعمار أخلاقى، والكلام يجفف العمل، والابتذال والجهل يجفف الأخلاق.