فى يوم 16 أبريل من 1919، ذهبت اليهودية الوطنية المصرية نظلة ليفى إلى الجامع الأزهر بالقاهرة لتخطب فى الناس.. كانت ترتدى زياً محتشماً يليق بمقام الأزهر الشريف وبمكانة أكبر ثورة مصرية ضد المستعمر الإنجليزى، وهى ثورة 1919.. كانت أذكى بكثير من بنات اليوم اللاتى لا يقدّرن الأحداث والأيام والأماكن قدرها ومكانتها.. وتريد الواحدة منهن أن تطل صباحاً ومساءً على الجمهور المصرى المتدين، بفساتين شبه عارية حتى فى البرامج السياسية.. وكأن مصر كلها شبه عارية وليس فيها محجبة.. إنها مسابقة فى العرى على شاشة الفضائيات. سارت فى طرقات المسجد العريق العتيق الذى يحمل عبق التاريخ، والذى يريد البعض هدمه اليوم، أو يريد البعض لى عنق كل شىء لينسبه إلى التطرّف أو الإرهاب أو ينسب الأخير إليه. كان الشيخ أحمد الحملاوى من أئمة وعلماء الأزهر الكبار يسير إلى جوارها ويصاحبهما أحد القساوسة الكبار من الكنيسة الأرثوذكسية.. وقف الثلاثة أمام آلاف الحاضرين.. وكان أغلبهم من المسلمين. لم يعترض أحد على وجود السيدة نظلة ليفى أو على أنها ستتحدث إلى الناس فى الأزهر وعبر أعظم مسجد فى العالم بعد المسجد الحرام والنبوى والأقصى. قدّمها أحد الشيوخ للحديث.. تحدثت السيدة نظلة بطلاقة كعادتها.. تركز حديثها على الوحدة الوطنية وحثت الناس على التمسك بها والرباط عندها، لأنها القادرة وحدها على طرد الإنجليز من مصر.. استطردت فى خطبها إلى أن الرسل جميعاً إخوة، موسى وعيسى ومحمد، عليهم الصلاة والسلام.. وأن الله كرّم هذه الأمم بهؤلاء الأنبياء.. وأنها جاءت لتحيى رمزاً من رموز هذه الوحدة فى الأزهر الذى هو ملك للجميع وبيت للجميع.. وقالت علينا أن نستمر فى ثورتنا حتى تتحقق الحرية والكرامة لهذا الوطن السليب. أشادت بمصر كأعظم الأوطان الذى يسع الناس جميعاً ولا يفرّق بين أحد منهم. أنهت حديثها بهتاف الحاضرين وتصفيقهم وإعجابهم.. أعقب حديثها كلام موجز للشيخ أحمد الحملاوى الذى رحّب مرة أخرى بها وبحديثها، وتحدث عن العلاقة الجيدة التى تربط بين عناصر الأمة المصرية الثلاثة، المسلمين والمسيحيين واليهود.. وأثنى على وطنيتهم. ثم أعقبه حديث لأحد القسس الذى رحّب بالسيدة نظلة ليفى وبقومها، ثم خاطب الجماهير، قائلاً: إن هذه الأيام ليست بأيام إضرابات عن العمل، ولكنها أيام العمل، كل العمل.. عمل الأبدان وعمل الأرواح والنفوس.. وهذه الأخيرة هى أصل ورأس كل عمل مادى صحيح وناجح. تعجّبت لهذه الأيام كلما قرأتها أو تأملتها.. فإسرائيل التى زُرعت فى قلب المنطقة العربية دمرت علاقة اليهود المصريين بالدولة المصرية تارة وبالشعب المصرى أخرى.. وكان عدوانها الثلاثى مع بريطانيا وفرنسا على مصر هو آخر إسفين دقته إسرائيل فى العلاقة الوطيدة لليهود المصريين بمصر كلها.. وأدى بعد ذلك إلى جلاء معظمهم عن مصر. أما علاقة المسيحيين بالمسلمين فى مصر فقد عكرتها أحداث طائفية كثيرة لم يكن لها معنى ولم يكن لها أدنى مبرر، لا من شرع ولا دين.. ولا فائدة لها للمسلمين أو المسيحيين.. ومعظمها جاء على خلفية حب إحدى المسيحيات لشاب مسلم، أو الرغبة فى بناء حجرة إضافية فى كنيسة.. ولو أن للقوم عقلاً ما كانت هذه لتسبّب أى مشكلة.. فما المشكلة فى بناء كنيسة أو أكثر.. فهذا لن يضر الإسلام فى شىء، ولن ينقصه شىء. أما علاقة المسلمين ببعضهم البعض، فقد دمّرتها الصراعات السياسية والفكرية والمذهبية والحزبية. فقد انقسمت مصر إلى فلول وثوار تارة، وعسكريين وثوار أخرى، وثوار وشرطة أحياناً، وإخوان وسلفيين مرة، وربعاوى وسيساوى تارة، ومؤيد ل25 يناير أو ل30 يونيو، وثالث لا يؤيدهما معاً أو يؤيدهما معاً. إننى أتحدى اليوم أن تتكرر الوحدة الوطنية التى حدثت، من قبل فى ثورة 19. لقد كان هناك رواق للأقباط فى الأزهر الشريف تخرج فيه عمالقة فى الأدب والصحافة مثل ميخائيل عبدالسيد صاحب صحيفة «الوطن» الذى درس فى الأزهر، ثم انتقل إلى دار العلوم. لم أعرف حقيقة جهود سعد زغلول فى ترسيخ الوحدة الوطنية حتى رأيت ما صارت إليه مصر بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو، حيث إن السيساوى لا يستطيع أن يجلس مع الربعاوى، ولا السلفى مع الإخوانى، ولا الثورى مع الفلولى، ولا المسلم مع المسيحى، ولا السنى مع الشيعى، دون أن تحدث مشكلة أو خناقة. حينها تذكرت مقولة سعد زغلول الرائعة «لو لم تكن لى حسنة أتقرّب بها إلى الله سوى أننى وحّدت وجمّعت عناصر الأمة المصرية وصهرتها فى بوتقة واحدة لكفى». لقد كان سعد زغلول من الكياسة والحكمة بمكان، حتى إنه حينما أعجب بمكرم عبيد فى شبابه لكفاءته وإخلاصه، قرّبه إليه واتخذه ابناً له.. وكان سعد زغلول لا ينجب، فكان مكرم عبيد نعم التلميذ اللصيق به حتى إن الذين لا يعرفون ذلك كانوا يقولون عنه إنه «ابن سعد زغلول». وهذا القمص بولس باسيلى الوطنى الشهير يقول: «إن الذى علّمنى الوطنية الحارة هو أحمد حسين زعيم (مصر الفتاة) ذى التوجه الإسلامى».. فقد كان سكرتيراً لشعبة «مصر الفتاة» فى شبرا. أما فخرى عبدالنور -والد منير فخرى، وزير الصناعة الحالى- فقد كانت هناك حجرة خاصة مجهّزة فى بيته لسماحة المفتى العظيم حسنين مخلوف مفتى مصر فى الخمسينات والستينات، يبيت فيها كلما نزل إلى مدينة جرجا، ولا يأكل عند أحد قبل أن يأكل فيها. فهل يمكن أن تعود هذه المشاعر والتآخى لمصر بعد أن مزقتها الصراعات السياسية فى الأعوام السابقة؟