لما كانت سلامة النظام النقدى والمصرفى واستقرار الأسعار هما أبرز مستهدفات البنك المركزى المصرى، فإنه يستخدم مختلف أدواته لتحقيق تلك المستهدفات. وإذا كانت السيادة النقدية تتطلّب الحفاظ على قيمة العملة الوطنية بالقرب من معدلات التضخم المستهدف، والحد من تقلبات سعر الصرف باتباع سياسة مناسبة، والمحافظة على احتياطى آمن من النقد الأجنبى.. فإن الإدارة الحالية ل«المركزى» تواجه ذلك بتركة مثقلة بالمعوّقات المالية والمؤسسية، تراكمت خلال الفترة بين منتصف عامى 2015 و2022. تضخّمت ميزانية البنك المركزى المصرى من نحو 729٫3 مليار جنيه مصرى نهاية يونيو 2015 إلى نحو 2987 مليار جنيه بنهاية يونيو 2022. وتجدر الإشارة إلى أن السبب الأكبر فى نمو الأصول يرجع إلى ما قدمه «المركزى» من أرصدة وقروض وودائع مساندة للبنوك التجارية عبر عدد من المبادرات، كان لها أبلغ الأثر فى تشوه هيكل أسعار الفائدة. محصّلة ذلك أن تحوّلت ميزانية البنك من صافى ربح قيمته 23٫9 مليار جنيه فى نهاية يونيو 2015، إلى صافى خسائر بلغت نحو 123٫5 مليار جنيه فى 30 يونيو 2022. كذلك ورث محافظ البنك المركزى الحالى تركة من الديون الخارجية، وزيادة معدّل نمو المعروض النقدى، والشح الدولارى، وتعدد أسعار الصرف للدولار الأمريكى، وقيود الاستيراد، وهيمنة السياسة المالية، وانخراط البنوك فى إقراض الحكومة.. فضلاً عن خلافات مؤسسية، وتضارب فى قرارات السياسة النقدية تشتمل على التشديد والتيسير فى آن! وتفشّى ظاهرة «المستريحين» كدليل على تعثّر الشمول المالى. وقد حدّد «المركزى» معدّل التضخم المستهدف عند 7% (زائد أو ناقص نقطتين مئويتين)، لكنه لم يحقق هذا المستهدف إلا خلال فترة التباطؤ الاقتصادى التى نشأت عن جائحة كوفيد-19 بين يونيو 2020 ويونيو 2021، بما يعنى أن السياسة النقدية لم تكن صاحبة أى فضل فى تحقيق ذلك المستهدف، بدليل أن السيولة المحلية قد ارتفعت فى هذين العامين بمتوسط سنوى اقترب من 18%. وقد بلغت معدلات التضخم الأساسى فى مصر 26٫6% بنهاية يونيو 2024 بعدما وصلت إلى مستويات 41% فى يونيو 2023. وإذا كان جانب كبير من التراجع فى معدلات التضخم يرجع إلى أثر الأساس (المعدل المرتفع فى التاريخ المقارن)، فإن القرارات التى اتخذها «المركزى» منذ مارس من العام الجارى كان لها أبلغ الأثر فى الحد من مزيد من الانفلات فى معدلات التضخم، بفعل التخفيض المتتالى فى قيمة الجنيه المصرى منذ يناير 2022 والذى بلغ أكبر مستوياته فى مارس 2024 بنسبة تراجع بلغت حوالى 38% من قيمة الجنيه أمام الدولار الأمريكى. فقد تمهّل «المركزى» قبل اتباع نظام أكثر مرونة لسعر صرف النقد الأجنبى، حتى توافرت السيولة المناسبة لتلبية احتياجات السوق والتزامات الدولة. وتمثّلت تلك السيولة فى إيرادات صفقة رأس الحكمة، وما اتصل بها من اتفاق مع صندوق النقد والبنك الدوليين، والاتحاد الأوروبى، وأبرز المودعين من دول الخليج بحزمة بلغت 57 مليار دولار. كذلك دعّم «المركزى» سياسة مرونة سعر الصرف، بتشديد نقدى مناسب لكبح معدلات التضخم، حيث أقدم على رفع أسعار الفائدة بستمائة نقطة أساس دفعة واحدة فى 6 مارس 2024 إلى مستويات 27٫25%، كذلك استخدم «المركزى» عمليات السوق المفتوحة لامتصاص فائض السيولة الذى يساهم بشكل كبير فى تعزيز تضخم الأسعار. وقد نفّذ «المركزى المصرى» عدداً من عطاءات السوق المفتوحة لربط الودائع للمصارف، قبل على أثرها 1٫25 تريليون جنيه فى أحدث عطاء فى 9 يوليو 2024. هذا الامتصاص المستمر لفائض السيولة بالمصارف يساعد على كبح التضخم، وإن كانت المعدلات الحالية للتضخم الأساسى أو العام بعيدة عن المعدل المستهدف المشار إليه. على أن اتباع «المركزى» لسياسة نقدية متوازنة ساعد على تباطؤ وتيرة التضخم، وتحقيق احتياطى النقد الأجنبى لقيمة تاريخية عند 46٫4 مليار دولار تقريباً (تكفى لاحتياجات 8 أشهر من الواردات السلعية)، وتحوّل صافى الأصول الأجنبية فى الجهاز المصرفى إلى فائض يزيد على 14 مليار دولار، بعد عجز استمر لما يقرب من 28 شهراً، وبلغ أدنى مستوياته نحو سالب 27 مليار دولار. ومن المتوقّع أن تساهم تلك السياسة فى تشجيع الاستثمار الأجنبى، وتحويلات العاملين فى الخارج، خاصة بعدما تحقق قدر من الوفرة الدولارية، التى سهّلت سداد متأخرات الشركات الأجنبية، والقضاء تدريجياً على تراكم الواردات بالموانئ بقيمة تجاوزت 8 مليارات دولار خلال أيام من إتمام صفقة رأس الحكمة (كان ذلك التراكم السلعى أحد أسباب التضخم الناتج عن نقص المعروض). وعلى الرغم من تراجع تحويلات العاملين فى الخارج خلال الفترة من يونيو 2023 إلى يونيو 2024 فإن الفترة منذ مارس حتى يونيو قد شهدت زيادة كبيرة فى تلك التدفقات، كما أفصح مسئول بالبنك الأهلى أن نسبة ما يتم التنازل عنه من العملة الصعبة المحوّلة قد بلغت 90% من التحويلات مقارنة بنحو 10% قبل قرارات مارس. ويتعين على «المركزى» الاستمرار فى سياسة التشديد النقدى فى ظل تأخر الولاياتالمتحدة عن البدء فى التيسير، وفى ظل الارتفاع الكبير فى معدلات التضخم، والرغبة فى جذب مزيد من التدفقات الساخنة فى الأجل القصير. * كاتب ومحلل اقتصادى