اقتربت منه منذ سنوات قليلة وإن كانت سمعته النضالية تسبقه قبل ذلك بكثير، فهو معارض بالطبيعة تجده فى قلب كل مظاهرة ومشارك فى كل الأطر الاحتجاجية وإن لم يكن عادة فى صفوفها الأولى، عارض مبارك بشراسة وانتقد مرسى رغم اعتزازه بانتمائه الإخوانى وهو الآن ضد الرئيس السيسى. فى إحدى لقاءاتى الأخيرة معه دار بيننا حديث أظنه يلخص كثيراً من الأحاديث التى تتناول الوضع المصرى الحالى. قال صاحبى وهو يحاورنى: أفهم أنك تعارضين الإخوان، أنا نفسى كانت لى تحفظات على أداء مرسى أبرزها أنه فشل فى أن يستقطب القوى المدنية فتآكلت الأرضية التى يقف عليها، أما ما لا أفهمه بحق فهو تأييدك السيسى، ففى عهده سالت دماء بأكثر مما سالت على مدار التاريخ المصرى، وانهالت أحكام الإعدام على خصومه السياسيين، وعرفنا لأول مرة المشانق التى يساقون إليها زرافات ووحداناً وهذا جزء من معضلة تسييس القضاء. جمعتنا ثورة يناير حين كان النظام يقف ضدنا بكل جبروته وقوته، هتفنا تحت زخات الرصاص واختنقنا برائحة الغاز ولم نبال، ثم جاءت 30 يونيو لتفرقنا واختلف المشهد بالكلية فالنظام كان يقف فى صف المتظاهرين يحرس تظاهراتهم ويحميها، كانت المؤامرة واضحة ولم ينتبه لها مرسى وهذا يضاف إلى مآخذى عليه. أجبت على صاحبى بأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين معارضتى الإخوان وبين دعمى للسيسى، فالرجل اتخذ الخطوة التى لم يكن ليتجاسر عليها أحد، مشكلتى مع مرسى لم ترتبط بانعدام كفاءته فَلَو كانت تلك هى مشكلته الوحيدة لقضى فترة حكمه الأولى ومضى، مشكلتى أن الرجل جاء من جماعة وضعت نفسها فوق الوطن بل فوق الدين نفسه ومن ينسى دعاء القيادى صبحى صالح وهو طريح الفراش بأن يميته الله على «الإخوان»؟.. طلبت منه ألا يحاججنى بأحزاب الأغلبية فى الدول الديمقراطية التى تشكل الحكومات وتعتمد على أعضائها فى إدارة دولاب الدولة فالقياس غير دقيق مع الإخوان، فهذه الأحزاب لا تجعل نفسها قوّامة على الشعب، لا تطالب بنسبة لمنتسبيها فى الكليات الحربية وكأننا بصدد إعمال محاصصة فئوية، هذا غير ذاك. هل توجد إحباطات فى الوضع الراهن؟ الإجابة: نعم باليقين لكن فى الفترات الاستثنائية لا تحدثنى عن السلوك الطبيعى. أما فى حديث الدم المسال ففيه كثير يقال، إذ يستطيع كل فريق أن يختار اللحظة التى يرجع لها بداية إراقة دماء المصريين، فالبداية قد تكون من أحداث قصر الاتحادية وتفريق المعتصمين بالقوة، أو من المصادمات أمام المقر الرئيسى للجماعة فى المقطم، قد ترتبط بالعناد فى رفض الاحتكام لنتائج انتخابات رئاسية مبكرة رغم تزايد الغضب الشعبى بل حتى رفض تغيير الحكومة، وقد تكون من أحداث الحرس الجمهورى وفض اعتصامى «رابعة والنهضة». فى كل تلك المحطات سقط ضحايا، والانحياز لإحداها وتعظيم أثره فيه مفاضلة بين دماء المصريين، ثم نحن إزاء جماعة يشهد تاريخها بأنها لم توفر جهداً فى التعبير عن معارضتها بالعنف فيما لم ينزلق سواها لإراقة الدماء، اصطدم الرئيس عبدالناصر بالشيوعيين ولم يرفعوا السلاح فى وجهه، وقام بحل الأحزاب السياسية فكان حزب الوفد المتضرر الأكبر لوزنه السياسى المعتبر ولم ينخرط فى خلايا وتنظيمات إرهابية، وفى صراع السادات مع ممثلى التيار الناصرى فى أزمة مايو 71 اختار هؤلاء الانسحاب من الحياة السياسية بينما كان بوسعهم تحريك الجيش والشرطة، وحدهم الإخوان يؤصلون للعنف ويخوضون به معاركهم السياسية. هددوا بإحراق مصر لو خسر مرسى فى الجولة الانتخابية الرئاسية الثانية، وكرروا التهديد قبيل فض رابعة، وأعلنوا أخيراً نهاية «سلميتهم» وكأن القنابل والتفجيرات والاغتيالات والحرائق التى حولت حياة المصريين إلى جحيم طيلة عامين مجرد حلم ليلة صيف! نأتى لتسييس القضاء، عندما حكم القضاء ببطلان تشكيل مجلس الشعب فى ظل محمد مرسى طنطن الإخوان كثيراً عن تآمر القضاء على الرئيس، الآن استبق القضاء تشكيل مجلس النواب على أساس باطل وحكم بعدم دستورية قانون الانتخابات فهل يتآمر القضاء على الرئيس السيسى؟.. ثم ماذا عن الضغط السياسى الإخوانى على القضاء بحصار المحكمة الدستورية العليا ثم تجريدها من صلاحياتها عبر تحصين قرارات مرسى فى إعلان نوفمبر؟ القصد، إن اعتراض الإخوان ينصب على مضمون التسييس وليس على هذا التسييس من حيث المبدأ. وأخيراً فكرة المؤامرة، ليس صحيحاً أن النظام كان ضد المتظاهرين فى يناير وكان معهم فى يونيو فالنظام بمعنى الرئاسة كان ضد التغيير فى الحالتين، أما إن كان المقصود المؤسسة العسكرية فقد حسمت موقفها بوضوح بعد موقعة الجمل لصالح مطالب الثورة عندما اتسع نطاق التأييد لتلك المطالب، وفعلت المؤسسة العسكرية الشىء نفسه فى يونيو لكن بسرعة أكبر لاختلاف الظرف التاريخى، ففى 2011 كنّا إزاء نظام هرم مفكك عرض الرحيل طوعاً بعد شهور ستة أما فى 2013 فالنظام كان يستميت فى الدفاع عن سلطته وكان يسنده تنظيم قوى له خطوط إمداده الخارجية، وبالتالى فإن الحسم كان الخيار الوحيد. انتهى الحديث مع الصديق الإخوانى ولم يدرك كلانا نقطة توافق فالمواقف المبدئية قلما تتغير، لكنه كان مناسبة لاستدعاء ماضٍ قريب بتطوراته السياسية العاصفة وكأنه إسهام مبكّر فى سيل التحليلات التى ستواكب بالتأكيد حلول الذكرى الثانية لذلك اليوم المشهود.. يوم الثلاثين من يونيو.