ثمة إشارات لا تخطئها العين تصدر عن نظام الحكم الجديد الذى انبثق عن ثورة 30 يونيو، تشى بإرادة متحفزة للحرب على الفساد وتضييق الخناق عليه وتجفيف ينابيعه، ويبدو أن قمة السلطة الجديدة على يقين بأن المعركة مع الإرهاب ليست معركتها الوحيدة، التى تُرجأ من أجلها بقية المعارك والمواجهات، فالفساد جبهة أخرى واسعة ومفتوحة، والفساد والإرهاب يتغذيان على بعضهما البعض، وهما خطران يتحديان جهود التحول الديمقراطى والانتقال إلى دولة مدنية ذات حكم رشيد. فقد خلصت تقارير دولية محايدة أهمها «مجموعة البنك الدولى» إلى أن إدارة الدولة فى مصر بينها وبين الحكم الرشيد شُقة تتسع ولا تضيق، وقد استدلت على صحة النتيجة بمؤشر مبتكر هو مؤشر الحكم الرشيد العالمى Worldwide Governance Indicator الذى يتضمن ستة مؤشرات فرعية يعنينى هنا واحد منها هو مؤشر «ضبط ومكافحة الفساد»، ويرتب المؤشر الدول وفقاً لممارستها الحكم الرشيد من خلال نسب مئوية تتدرج من صفر إلى مائة. وقد تراوحت مؤشرات الحكم الرشيد فى مصر بين (- 5٫2 و5٫2) وهى نسب تضعها فى ترتيب متأخر مقارنة بدول أخرى بعضها ينطلق من ظروف متقاربة من ظروفها، ويقيس مؤشر ضبط ومكافحة الفساد مدى استغلال السلطة العامة فى تحقيق مكاسب خاصة، بما فى ذلك أشكال الفساد الصغير والكبير، وصور اختلاس موارد الدولة من قبل النخبة وأصحاب المصالح الخاصة. والحديث عن الفساد فى مصر ليس بالحديث المسكوت عنه محلياً ودولياً، فقد أشارت تقارير عدة محلية ودولية إلى تفشى الفساد فى مؤسسات الدولة المصرية، حيث جاءت مصر فى المركز 112 بين 185 دولة فى مؤشر مدركات الفساد لعام 2011 الصادر عن منظمة الشفافية العالمية، حيث حقق مؤشر مصر 9٫2 نقطة من 10 نقاط علماً بأنها احتلت المركز 70 فى عام 2005، وهو ما يعنى أن ترتيب مصر فى مؤشر الفساد وفقاً للمنظمة قد شهد تدهوراً ملحوظاً. وأكد التقرير الثالث للجنة الشفافية والنزاهة التابعة لوزارة التنمية الإدارية فى مصر أن الجهاز الإدارى للدولة يفرز كل عام ما يزيد على 70 ألف قضية فساد مختلفة تحفظ منها 40 ألفاً ويُحكم فى أقل من ألفين، وهو ما يثبت شيوع الإهمال والفساد الإدارى والمالى وانتشار الرشوة، مشيراً إلى أسبابه الأساسية وهى قصور المساءلة وغياب الحساب وتضارب الاختصاصات. وهناك تحديات كبرى ترتبط بمكافحة الفساد وهى: - عدم وجود مؤسسات لتلقى الشكاوى تتمتع بكامل الصلاحيات، وغياب آليات الإبلاغ عن المخالفات، وعدم وجود أحكام خاصة تتعلق بالإبلاغ عن المخالفات أو حماية المبلغين. - الفجوات فى التنفيذ بين الإصلاح القانونى والممارسة فى المؤسسات، فعلى الرغم من وجود كثير من الاصطلاحات التشريعية المناهضة للفساد، فإنها تفتقر إلى آليات تضمن المساءلة والشفافية، فعلى الرغم من أن الجهاز المركزى للمحاسبات هو المسئول عن مراجعة حسابات مؤسسات الحكومة وقطاع الأعمال العام وبعض الجهات الأخرى وإعداد تقارير المراجعين، فإنه لا توجد آلية لنشر التقارير على الرأى العام، ولا يوجد نظام فعال يضمن متابعة النتائج التى توصل إليها الجهاز. - تراجع مهمة العاملين فى الجهاز الإدارى للدولة من موظفين يقومون بتقديم خدمات عامة للمواطنين أى العمل فيما يسمى بالأنشطة الموازية أو الاقتصاد الخفى، بسبب إطلاق آليات السوق دون توافر مقومات الحفاظ على التوازن الاجتماعى كآليات حماية المستهلك والمنافسة ومنع الاحتكارات، وزيادة معدلات التضخم وارتفاع الأسعار التى أججت مشاعر الفردية، وهيمنة ثقافة المصلحة الفردية دون أى اعتبار لقيمة ومفهوم المصلحة العامة، لمواجهة تآكل القيمة الحقيقية للأجور والدخول النقدية الثابتة، حيث هرع البعض لتعويض هذا الحرمان باللجوء إلى ما نسميه بالاقتصاد الموازى أو الأنشطة السوداء، ومنها شيوع ظاهرة الدروس الخصوصية فى قطاع التعليم التى أنعشت دخول المعلمين لكنها لم تمنع انهيار جودة التعليم. - الجمع بين المصالح العامة والخاصة، حيث لا توجد قوانين متعلقة بتعارض المصالح، من شأنها تنظيم كيفية التعامل مع الحالات التى يكون للمسئول الحكومى فيها مصالح شخصية تؤثر على أدائه لواجباته العامة. - صعوبة الوصول إلى المعلومات، حيث ما زالت قوانين تنظيم وضمان حرية تداول المعلومات لم تختبر بعد، وما زالت هناك قيود تعترض حق المواطنين فى الوصول إلى مصادر المعلومات. - أصبح تطبيق العدالة الانتقالية من القضايا المركزية المرتبطة بتحديد مستقبل مصر بعد الثورة وترسيخ شروط التحول الديمقراطى، ذلك أن محاكمة أركان النظام السابق ومعتقداته وتنظيماته وموظفيه وقادته الذين أفسدوا الحياة السياسية قبل ثورة 25 يناير وما بعدها، يضمن الحيلولة دون إعادة إنتاج نظم الفساد والاستبداد السابقة، ولو من خلال أشكال ووجوه جديدة. على صعيد آخر يمكن لإجراءات العدالة الانتقالية غير المنضبطة والمدفوعة بهوس الغضب والقصاص الثورى أن تدفع إلى هيمنة منطق الإقصاء والانتقام، وأخذ العاطل بالباطل، وربما إيقاع الظلم بأبرياء، وهو الأمر الذى يعرقل خطوات التحول نحو الحكم الرشيد.