فاجأتنى تلك المكالمة الهاتفية على الهواء أثناء تقديمى برنامج «تحياتى» على قناة «الناس» مساء السبت الماضى. حلقة أناقش فيها معانى الرضا بالرزق والقدر وفوائد ذلك مع خبيرة فى التنمية البشرية. تحادثنى من تسمى نفسها «أم إبراهيم» فتحكى عن أمها الست وردة التى تحملت عبء تربيتها وإخوتها السبعة بعد وفاة والدهم وهم صغار فى مدينة الإسماعيلية. وحكت كيف خرجت الست وردة بعد وفاة زوجها تسعى على رزق ثمانية أطفال حاملة فأساً تدور به فى أراضى الغير كغيرها من عمال التراحيل.. ومن قروشها وجنيهاتها القليلة ربتهم جميعاً وأنهت تعليمهم. بعضهم تخرج فى الكليات والبعض الآخر انتهى به المطاف بالتعليم المتوسط كل حسب قدراته، بل زوجت بعضهم أيضاً كما حدث مع صاحبة المداخلة. لم تكتف الابنة بهذا القدر من الحديث عن كفاح أمها بل أضافت حكياً ذكرت فيه كيف أصرت أمهم الست وردة على تعليمهم الرضا حتى فى لحظات الحاجة وقلة الحيلة، فقالت إنها كانت تحتفظ ببقايا الخبز لوقت يشح فيه الطعام حتى لا يمدوا أعينهم وأيديهم للغير. وقالت إن تلك الكسرات الجافة كان يصيبها العفن فى بعض الأحيان بالإضافة لصعوبة تناولهم لها، فكانت الأم الراضية بقضاء ربها تنقع الكسرات فى الماء لتلين ويتمكن أبناؤها من تناولها. وقالت أم إبراهيم نصاً: «كنا ننام وإحنا حاسين بالرضا من العيش المبلول بالماء المتلون بخضار العفن، ولحد النهارده كل حاجة بترضينا ونحمد ربنا عليها رغم اننا بنسعى فى الحياة عشان نحسن عيشتنا». وجهت التحية للست وردة قصيرة اليد طويلة الهامة الموفورة بالكرامة المشبعة بالرضا رغم قسوة ظروف الحياة عليها. وتمنيت وأنا أشكر ابنتها لو حادثتها لتحكى هى عما قاسته وعانته فى تلك الرحلة الطويلة الشاقة التى امتزج فيها التعب من مجهود العمل بالأجرة فى أرض الغرباء، مع الإحساس بالأمل فى القدرة على الوصول بالأبناء لبر الأمان ما دام القرش حلالاً، مع إحساس العجز فى بعض الأيام من عدم القدرة على توفير طعام حقيقى لفلذات أكبادها. وتخيلت كم من مرة احتاجت لعلاج أو مصروف مدرسة؟ كم مرة أرادت البكاء من ثقل الحمل ولم تستطع؟ كم مرة رفعت كفها للسماء فنظر الله لها برحمته وفرجها عليها لما تعانيه؟ وتذكرت نفوساً أدمنت الشكوى من كل صغيرة وكبيرة فلم تعرف للرضا إحساساً، وضمائر فسدت لا من عفن الخبز ولكن من عفن النفس فاستحلت حقوقاً أو أضاعت حقوقاً، وقلوباً جفت فيها المشاعر فتملكت منها الأنانية والطمع والحقد فصارت أكثر صلابة من صخور الطبيعة. ووجدتنى أدعو للست وردة ومن هم على شاكلتها فى الحياة من الذين رضوا بقضاء الله وأقداره يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، لا يعنيهم من الحياة سوى العيش فيها بالحلال والرضا واضعين نصب أعينهم لحظات النهاية المفاجئة، طامعين فى لقاء خالق بثروات هى أعمالهم فى الحياة. ودعوت الله أن يمن علينا بالمزيد من الورود من عينة الست «وردة».