سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مقهى الصم والبكم بالإسكندرية.. الصوت للملاعق وطقطقات "الدومنو" رواد المقهى: اعتزلنا الحياة بسبب السخرية والتهكم علينا.. و"قهوجي": الصم والبكم أنقى من الأشخاص الطبيعيين
اللقاء اليومي ل"المنسيين في الأرض".. هكذا يصف مرتادو مقهى الصم والبكم بالإسكندرية حالهم، من على المقاعد الخشبية التي لم يفارقها بعضهم منذ قرابة (40 عامًا) حتى الآن، والتي أضحت بالنسبة إليهم هي الحياة، وما دونها كماليات غير مرغوب فيها بسبب قسوتها وإهمالها لهم. الهدوء يخيم في كل ركن، على الرغم من امتلاء تلك الأركان عن آخرها بالزبائن، ولا يسمع المار أمامها سوى خبطات الملعقة في كوب الشاي، وطقطقات قوالب لعبة "الدومنو" على الطاولة، هذه هي مقهى الصم والبكم، بمنطقة المنشية وسط الإسكندرية، والذي اتخذه المصابون بالصم والبكم مقرًا لهم، منذ أكثر من 70 عاماً. يقول محمد السيد، ابن مالك المقهى، ل"الوطن"، إن السبب في إطلاق اسم الصم والبكم على المقهى، هو تردد "الخرس والطرش" عليها بشكل دائم، واتخاذها مقراً دائمًا لهم، وذلك منذ نشأتها الأولى والتي كانت في عام 1945. ويضيف "السيد": عرفت من والدي ومن قبله جدي، أن المقهى عند إنشائه لم يكن الغرض منه أن يخصص لأصحاب الإعاقات الجسدية، ولا الصم والبكم، إلا أنه تصادف تواجد مقر عمل مجموعة منهم بجوار المحل، الأمر الذي كان يدفعهم للاتقاء فيه بعد الانتهاء من أعمالهم، ثم بدأ كل منهم يدعوا أصدقاءه للمقهى، حتى سيطروا في أقل من سنتين على قرابة نصف المقاعد بشكل يومي. وتابع نجل صاحب المقهى: في ذاك الوقت بدأت المقهى تعرف بين الأهالي والمارة في الشوارع وسكان المنطقة باسم "قهوة الخرس"، وهو ما تم تغيره لاحقًا إلى مقهى الصم والبكم للحفاظ على مشاعرهم، ثم تسبب هذا الاسم في تجميع كل من يعانون من مشكلات في النطق والسمع من كل حدب وصوب في مناطق الإسكندرية، للجلوس فيها. وأردف قائلًا: التعامل في البداية كان صعب للغاية، لعدم قدرتهم على الكلام، وعدم قدرتنا على فهم الإشارات، إلا أنه بعد فترة وجيزة، تعلمنا بعض الإشارات، التي من خلالها أصبح من السهل معرفة طلباتهم والتعامل معهم وكأنهم زبائن عاديين. ويلتقط حسن عوض، أحد العاملين في المقهى، أطراف الحديث من ابن صاحب المحل، ليقول: في البداية كان المعلم الكبير والد صاحب المقهى الحالي، يفكر في طرد المصابين بالصم والبكم من المقهى، بسبب ضيقه الشديد وانزعاجه من ارتباط اسمه واسم "القهوة" بهم، إلا أنه تروى قليلًا وسمع آراء من حوله، والذين أكدوا له أن في ذلك فائدة كبيرة تعود عليه، وتجعل من محله مزارًا لفئة ليست قليلة في المجتمع، ما يساهم في ازدياد تجارته وجنيه لمكاسب مادية كبيرة. وعن أسلوب تعامله مع الزبائن المصابون بالصم والبكم، قال "عوض": جئت لأعمل في المقهى منذ أكثر من 20 سنة، وكنت صغيرًا ولم أعمل من قبل، وكنت أخاف من أي شخص لديه إصابة بدنية أو عقلية، إلا أني مع الوقت ومع التعامل المباشر معهم، أدركت أنهم أنقى وأبسط وأفضل كثيرًا من الأشخاص الطبيعيين، والذين إذا جلسوا في مقهى آخر يتعاملون مع "القهوجي" باعتباره إنسان درجة ثانية، أو كأنهم اشتروا بأموال "البقشيش". وأضاف: أصبح التعامل مع الصم والبكم جزء من بناء شخصيتي، لدي الآن ثقافة واسعة في عالم البشر غير الطبيعيين، فعلى الرغم من أني أكملت تعليمي أثناء عملي في المقهى، حتى حصلت على شهادة جامعية، إلا أني أعتبر أن تعليمي وثقافتي الحقيقيين، اكتسبتهما من عملي هنا ومع هؤلاء البشر. محمود عبدالرحمن، أحد الصم والبكم من رواد المقهى، يقول ل"الوطن"، عبر ترجمة إشارته من أحد العاملين، إنه يعرف المقهى منذ أكثر من 20 سنة، إذ أصبحت المقر الرئيسي للصم والبكم، وبخاصة بعد أن استأجروا وحدة سكنية ودشنوها كمركز خاص بهم لقضاء حوائجهم وتحقيق مصالحهم. وأضاف "عبدالرحمن"، أن التعامل مع المجتمع المحيط يعد أبرز مشكلات الصم والبكم، وبخاصة أن الأشخاص الطبيعيون كثيرًا ما يتهكمون عليهم، ويجعلوا منهم مادة خصبة للسخرية والمزاح، دون النظر إلى الحالة النفسية السيئة التي تصيب الصم والبكم بسبب تلك السلوكيات. وتابع: لذلك كان لا بد من العزلة وعدم الاختلاط بالناس، فيجب أن يكون لدينا عالمنا الخاص، الذي نتعامل فيه بأريحية ودون الخوف من نظرات الناس أو الخجل من تصرفاتنا أمام أي أحد. وأردف قائلًا: في البداية كان الأمر صعب للغاية، ولكن بمرور الوقت، تعلم العاملين بالمقهى، بعض لغات الإشارة، مما سهل عليهم التعامل معنا، وأصبحت المقهى هي المقر الدائم لهم، وبخاصة أن لغة الإشارة ليست بالصعب تعلمها، والدليل على ذلك أن أغلب بلاد العالم المتحضرة، الجميع فيها يعرف لغة الإشارة ويتعامل بها وقت اللزوم.