يوم الثلاثاء الماضى، شاركت فى ندوة نظمها «معهد التنوع الإعلامى» لمناقشة موضوع «التغطية الإعلامية للأحداث الإرهابية»، حيث تلقيت سؤالاً مهماً من الإعلامية اللامعة دينا عبدالرحمن عن «كيفية تحديد مفهوم الأمن القومى، فى ظل الاستخدام المكثف له فى قضايا تتصل بحرية الإعلام وأنماط أدائه». لقد أوضحت أن مفهوم «الأمن القومى» ظل مفهوماً عصياً على التعريف الجامع المانع، كما ظل إحدى الذرائع الرئيسة التى يتم الاستناد إليها عند وضع قيود على حرية الإعلام. لقد تصاعد دور الإعلام تصاعداً كبيراً فى العقود الأخيرة، وبعدما كان الحديث يجرى عن الصحافة بوصفها «سلطة رابعة» فى منتصف القرن الماضى، ظهر الكثير من الأدبيات التى اعتبرت أن تطور تأثير الإعلام والزيادة اللافتة فى الاهتمام بدوره جعلت منه «سلطة عابرة للسلطات». يوفر لنا هذا التطور الكبير طريقة لفهم الأسباب التى دعت دولاً عديدة إلى توفير موارد ضخمة، وتوظيف خبرات كبيرة، من أجل تطوير وسائل إعلام قوية، كما يوضح لنا الأسباب التى دعت تنظيمات مثل «الإخوان» أو «داعش» أو «القاعدة» أو «حزب الله» وغيرها، إلى أن تستثمر فى مجال الإعلام، باعتباره أحد عناصر القوة الشاملة، وإحدى أهم وسائلها فى تحقيق أهدافها. وفى غضون ذلك، يزيد الالتباس لدى السلطات العامة فى دول العالم المختلفة، حينما يتعلق الأمر بممارسات إعلامية حادة أو منفلتة، خصوصاً أن اتخاذ الإجراءات التقييدية الخشنة بحق أى وسيلة إعلام أو إعلاميين يظل محل انتقاد كبير. يقول «أرنولد ولفرز» إن «الأمن القومى بمعناه الموضوعى يتعلق بمدى غياب التهديدات الموجهة للقيم المكتسبة فى المجتمع والدولة». ولقد أكد باحثون كثيرون على هذا المعنى بالذات؛ إذ اتفق كل من «فرانك تريجر» و«فيليب كرننبرج» على أن «الأمن القومى يتحقق عبر السياسات الحكومية التى تستهدف خلق الظروف المواتية لحماية القيم الحيوية». ولأن جزءاً من السيادة الوطنية يتعلق بالسيادة على المجال الإعلامى، فقد ظهر اتفاق واضح بين كثير من الباحثين على أن الحكومة فى أى دولة ذات سيادة مطالبة بأن تتخذ الإجراءات اللازمة حيال وسائل الإعلام الداخلية والخارجية التى تستهدف قيم الأمة الحيوية. يظل هذا التدبير الحكومى جزءاً من مسئولية حماية أمن الدولة والمواطنين والخصوصية والكرامة الإنسانية والوحدة الوطنية والتماسك الأهلى والآداب وحقوق النشء والفئات المهمشة والضعيفة. وتظل قدرة كل دولة على أن تمارس تلك المسئولية من دون أن تجور على حرية الرأى والتعبير مناط الاهتمام والتقدير. لا تتسامح الدولة عادة فى المخالفات التى تمس أمنها وأمن المواطنين بداعى الحفاظ على حرية الرأى والتعبير، ولكنها أيضاً تتعرض لانتقادات كبيرة عندما تجور على تلك الحرية أو تحاول الحد منها. سيكون من المناسب جداً توضيح الحدود التى يمكن أن تُعتبر فيها أى دولة أن ممارسة ما عبر وسائل الإعلام التقليدى أو الجديد «حرية رأى» أو «انتهاك للقيم»، لكن هذا لا يحدث بشكل دقيق فى كل الأحوال. وعوضاً عن ذلك، تفضل دول كثيرة، ومنها مصر للأسف، أن يكون الحساب انتقائياً، بحيث تتم معاقبة هذا الذى ينتهك القيمة إذا كان يقف فى موقع المعارضة، ويتم التغاضى عن الخطأ إذا كان المخطئ من الأنصار. ستظل قدرة الدولة على توفير إطار مناسب من حرية الرأى والتعبير محل تقدير كبير، كما ستظل التدابير التى تتخذها بداعى حماية القيم الوطنية من الممارسات الإعلامية الحادة محل تشكيك وانتقاد فى كثير من الأحيان. ستتصاعد الشكوك فى سلوك الدولة حيال حرية الإعلام كلما كان هذا السلوك انتقائياً يكيل بعدة مكاييل، وسيسود الاعتقاد فى سلامة منطلقات هذا السلوك كلما كان مستقيماً وعادلاً. لذلك، قد يمكننا أن نتفهم إجراء تقييدياً تتخذه الدولة، عبر وسائطها المعنية، للحد من انتهاك إعلامى معين ل«الأمن القومى»، فى حال عممت هذا الإجراء بشكل منصف، بحيث يطال هؤلاء الذين يناصرونها وأولئك الذين يناصبونها العداء.